المدينة و الدهشة امرأتان لحزن واحد،قال ذلك
و هو يرسم ابتسامة ساخرة على وجهه، نظر الى السماء و هي تنشر رذاذا خفيفا يخز
الروح فتنبعث موسيقى هادئة. الجميع يجري في اتجاهات مختلفة، وجوه تحمل ابتسامة و
اخرى مقطبة، وجوه حزينة و اخرى تلهث خلف فرح ما، تذكر وجهه....لم يعد وجها ...صار
كالندبة في جبين الايام....هكذا بجد متعة في مشاهدة الحياة و هي تلد نفسها ولادة
يومية مبتذلة....منذ سنوات وجد نفسه وحيدا،مات جميع اهله في الحرب، انحنى للقدر
شاكرا بصمت فللقدر فلسفته الرائعة في رسم
الخيبات...و لكنه اعتاد هذه الوحدة...صارت ككرية صغيرة في دمه تلهمه صمتا امام عصف
الايام...هنا بين هذه الجدران العالية، لم يعد يخاف الوجوه المقطبة و لا
الابتسامات الساخرة...لم يعد يخاف النظرات الصاعقة كالكهرباء تهز القلب
بالبكاء...لا يدري لماذا تنتابه رغبة البكاء كلما راها ترقص....كانها تذكره بشيء
ما موغل في البعد، عميق في النفس...ربما تكون تلك البقعة الوحيدة المضيئة في
روحه...البقعة الوحيدة التي احاطت بها اشجار شائكة من النسيان.....كانت ريتا
بسهولة تخترق تلك الاشجار العالية....كان يتاملها....كانت الشيء الوحيد الذي يتحرك
في عالمه بعد ان اصبح جدارا متيبسا مثل جدران باريس العالية المطبقة على القسوة ....هي
حلمه الذي يغريه بالحياة ....كثيرون فضلوا الانتحار هنا بعد ان ماتت احلامهم
...عندما يموت الحلم، ندرك اننا اصبحنا من معشر الجدران....سحب نفسا عميقا من
سيجارته و القى عينا سريعة على الانية غمغم" هل تكفي هذه النقود لانسى شعور
الجدران؟؟؟"...فجاه انهال عليه صوت غليظ "ماذا تفعل هنا؟؟؟" تلك
الاسئلة السخيفة للأثرياء المتبجحين....ببرود اجاب و عيناه تفحصان الشارع في هدوء
: و ماذا ترى؟؟؟ بصوت خفيض متدثر في الندم " ارى انك تتسول بضحكة مجلجلة
انتفض ساخرا خيل اليه ان الشارع الطويل يتحول الى بئر عميقة تردد ضحكته" هل
ستعطيني النقود ام ستلقي على مسامعي حكمة الاثرياء عندما يرون قطا منهكا في
القمامة" بصمت مد الصوت الخفيض ورقة نقدية و غاب في الضوضاء...يجب ان تكون
جدارا كي يخرس الحمقى عن الحكمة ....الليلة سيرى ريتا...بقلبه شوق لا
يفهمه....الاشياء الكبيرة تتكبر على
الفهم.....
بيد واثقة مد ورقة نقدية لرجل عريض يقف بالباب....عند هذا الباب فقط يحس
انه جدار اخر...جدار برتدي بدلة....يضحك ضحكة مقتضبة كالأثرياء ...جدار يبحث عن
قبضة قوية تصدعه فيهوى....يحس دائما ان ريتا هي تلك القبضة....قليلات اولئك النسوة
اللاتي يحدثن بك الانهيار و تحب انهيارك ذاك ....تنسى انك مجرد جدار اخرس يشاهد
الحياة بعين ميتة و يغرق في ذاكرته......ريتا تفتح باب الحلم في روحه فيعشق احلامه
و يؤمن اكثر من اي وقت مضى ان بإمكانه ان يحلم هادئا تحت سماء ما.....
صب كاسا....يتسائل دائما لماذا يثمل..... و
يصطدم دائما بنفس الاجابة....."شوارع باريس لا تصنع سوى المتسولين و
المعربدين...باريس الماكرة لها قدرة عجيبة
ان تجعلك جدارا من جدرانها تدين لها بولاء التكلس.....
عجت القاعة بالتصفيق....هاهي تأتى لتثور
الرياح و يصبح الموت جميلا .... ريتا ....كباريس انت جميلة و ماكرة......كالزلزال
انت و انا لا املك امام الزلزال الا ان اشاهد حتفي.....ملا كاسا اخرى صار يعرف
طعما اخر للخمر....احس كانه قط عجوز في كومة قاذورات ينظر بزهو الى شرفة
مضيئة.....بالشرفة المضيئة......راقصة.....قد لا يراها راقصة كما يراها
الاخرون..... قد تكون ضحكة كبيرة تنفلت وسطدموع كثيرة.... وهما....حلما....موسيقى
بعيدة تاتي مترنحة....
في اخر طاولة استند راسه الى الحائط .....
اغمض عينيه و على وجهه دموع.......
محطة الارتال تمتلئ بالوجوه و اصوات الاحذية
و اشكال الحقائب المختلفة.....ود لو كان من بين هؤلاء المسافرين يحمل حقيبة، يهرول
باتجاه القطار....ود لو يكون بشريا....مثل هؤلاء ... و لكن اليس بشريا؟؟؟....المطر
تخمش روحه و راسه يعج باصوات كثيرة من ذاكرة بعيدة .... ياتي صوت كالمطرقة...صوت
مختلف.... كانه ينبعث من روحه....
قال
الصوت الغريب" بحثت عنك في كل مكان انت الرجل الوحيد الذي يبكي في حضرة
راقصة"
قال بثقة كانه يعرف السؤال مسبقا " انا
جدار قديم...."
اذا سنقتطع تذكرتين ايها الجدار
القديم".......قالت بمرح
ضحك منفعلا " و ما جدوى السفر مع
جدار؟؟؟"
قالت و هي تجذب سيجارته و تاخذ نفسا
عميقا" تماما كجدوى مشاهدة راقصة و البكاء"
"انت مجنونة"
"و انت طاعن في الحزن"
"و لكن لماذا تبكي؟؟؟"
"قصة كبيرة كالبحر...... واسعة
كالسماء"
علا التصفيق و الهتاف....فتح عينيه بصعوبة كانه يتبين النور....راها تغادر.....اغمض
عينيه من جديد اطلق عنان حلمه.... اكبر من حلمي انت ريتا.... اوسع من جرحي......
خربشة جميلة بقلب جدار قديم....سأنتظرك
اعرف انك ستبحثين عني.....تحتاجين جدارا حزينا تسندين عليه راسك المتعب......