زمـــــن الملاحـــــم
في " لغة القبائل" لجمال الصليعي
• سامي بالحاج علي *
دوز – تونس
1) اللغة المعجزة :
ليست هذه المرة الأولى التي تقف فيها قافلة الشاعر التونسي جمال الصليعي عند واحة اللغة العربية . قصائد كثيرة سابقة انبنت على تفاعل مع لغة الضاد: شخّصها وناجاها ,استمع إلى بوحها وشكواها, بثها مرارا ته وهمومه وعرجت به على قومها بماضيهم و حاضر هم واستشرف معها غدهم وغدها. افتخر بها وبهم هجاها وهجاهم وصب ألوانا من الغضب عليها وعليهم .ذلك لأنها لم تكن أبدا حروفا ومقاطع ولا أصواتا وصرفا وإعرابا ولا مجرد أداة تواصل بل إنها ليست أداة تشكيل جمالي شعري ولا مكابدة لأوجاع التعبير والبوح فحسب ...هي اكبر من كل هذا وذاك .هي أن نكون أو لا نكون .هي الحضارة و الوجود .هي الأمة ماضيها ومصيرها .هي الذات أعماقها وأبعادها . هي كما يقول محمود درويش:
فلتنتصر لغتي على الدهر العدو (1)

إن الجامع الدلالي بين قصائـد جمال الصليعي الأخيرة أثناء تصديها للغة الضاد تصويرها اللغة حريقا والحرف حرا واشتعالا فإننا في "لغة القبائل " إزاء صورة نقيض تماما هي صورة اللغة /الماء . وهي في هذا المستوى الاستعاري امتداد لقصيدة سبقتها مباشرة هي "وادي النمل ".بل انه ليصح اعتبار لغة القبائل حركة شعرية أخيرة من حركات "الوادي" .تمضي القصيدة الجديدة علي نفس النهج الفـني المختار في سابقتها عبر مزاوجة عروضية بين العمودي والحر محافظة علي البحور الشعرية ذاتها من رمل وكامل ووافر.
وعلي المستوي الدلالي تعمق لغة القبائل دلالات مبثوثة في وادي النمل خاصة المقطع العمودي الأخير منها حيث مكابدة مأساة الحرف والنص والقراءة . وكان الشاعر في النونية – المقطع العمودي الأول في وادي النمل –قد أقام مع اللغة تواصلا رغم إجهادهما ومعاناتهما :
إن تكن بي حرقة أكتمها ناب وجهي فهو لا يكتمني
وبقايا لغة واعدتها كلما وا فــــــيتها تحملني
أما المقطع الحر قبل الأخير فيكشف صراحة إمكانية انتمائه إلى لغة القبائل بما انه يقول :
أريد دما يعرّبني
ويكشفني على لغة
ترتب كل أسمائي
لعلي أن رجعت
نصبت قيامة الماء .
وما لغة القبائل إلا قصيدة انتصاب قيامة الماء .ألا يقول فبها :
سنفض ختم الروح عن ماء الكلام
ثم يضيف :
يا ماء
هذا الهم اكبر من مساحيق الشمال
ومن مرارات الجنوب .
وقد كان الشاعر في وادي النمل قد اعتبر الضاد برقه المخبوء لأزمنة الجفاف :
قل سمني مازال لي برقان ضا دهما يفيض على الجراح صهيلا
مزاوجا كعادته بين الضاد والنخل رمزين عربيين خالصين ولا ينضاف إلى المزاوجة الموجودة منذ قصائده المبكرة إلا قلق جديد بما انه قلق من اللغة وعنها:
احتاج ترجمة النخيل لامتطي قلق اللغات إلى السماء دليلا
وها هو في لغة القبائل يخاطب الضاد/ الماء /القصيد :
فانهمري
انهمري
بنا شغف لأيام المواسم والبروق .
والأكيد أن القصيدة الجديدة قد جمعت ما تداولته السوابق من دلالات لكن ضمن بوتقة تشكيل وتدليل فيها من الجدة والاختلاف نصيب وفيها من الارتكاز والامتداد نصيب آخر.
يرتكز الشاعر على موقف ثابت يفصل بينه وبين السائد " الحد اثوي "الداعي إلى لغة جديدة منفتحة على الآخر والزمن والتجدد...وقد كان سماهم "الطوارف " حين قال في وادي النمل "
ويلمزني الطوارف أن صوتي قديم قل بلى صوتي قديم
يرتكز الشاعر أيضا على فخر لا يتزعزع بلغة الضاد لكن تفريعات حادثة تطرأ عليه من حين لحين . فلغة الضاد قد مسها "الطاعون "وضاجعتها اللغات فإذا بها محتاجة إلى ما هو اجل من المدح والهجاء والفخر . لابد لها أن تقدر على" رحيل القول في شعب النجاة " وعل " مرارة التجديف نحو"حقيقة جفلت يخاتلها السراة" والممر بين الحالين ضيق .لكن " ستمر وسنمر من هذي الكوى".
ويمتد التراكب الدلالي فلا نعرف على وجه التدقيق من المخاطب بل لا نعرف أن كانت مؤنثا أم مذكرا :
يا ماء (مذكر)...ضيعكِ الدليل ( مؤنث بكاف مكسورة )
ولا نعرف هل هو لغة كما يشير العنوان أم قصيدة أم أمة أم ذات أم حضارة لكن في النص ما يحتمل كل هذه الدلالات متراكبة متداخلة تتضح كل واحدة منها من خلال شفافية أستار الأخرى .
ويبدو أن الجديد في القصيدة هو الاستعاضة عن النفس التقريري المباشر(القصائد الأولى) وعن النفس الأسطوري والصوفي (وادي النمل – الطوفان –العنكبوت) بنفس ملحمي لا تمتنع الأذن عن الانشداد إليه أثناء الإلقاء ولا تخطئه العين وهي تلتهم السطور .
2) زمن الملاحم :
بين البداية الاحتمالية الحذرة والنهاية اليقينية الواثقة نفس تصاعدي ونبرة متعالية .ابتدأ النص مرتكنا إلى شك بنته خيبات أمل عديدة فلم تعد الروح تثق في الوعود والأحاديث وخدع اللسان . "ربما" المتكررة تلقي بظلال الاحتمال والشك لكن انعدام أي بديل واستفحال أزمة اليأس قد يدفعان إلى التعلق بالقش .ولذا فان الـ"نحن " – ضميرالجمع المكابد لواقع مرير وقد سميناه الجبابرة- يتلمس مخرجا أي مخرج إذ لا سبيل لاحتمال المزيد فيتعلق بالوهم و لا يفرط في عمر زهرة ليجدد بالأمل الكاذب أمله الصادق في فجر /حق .نحن : جماعة لم تيأس ولم تستسلم , مازال فيها جذوة رفض ومقاومة تتبدى أمام أي نسيم قد ينفض رماد العجز والإحباط . يتعاور الـ"نحن" معجم طبيعي مشحون يمتد في كل اتجاه بمعانيه المتفحرة من الرمز ودلالاته الحواف دون أن يغفل عن العمق ليكشف عن حالة نفسية فردية وجمعية ويضيء واقعا حضاريا ويمسح الأزمنة ماضيها وحاضرها ومقبلها .لكن قطب الدلالة رمز أساس هو الماء .وللماء التحام بالـ"نحن ":
أجرت لنا الأنهار ذكرا
ولقد اتبع ذكرا .
نحن حضارة الرافدين وبردى دمشق ونيل مصر وسد مأرب وسيل العرم...نحن وطن ممتد من الماء إلى الماء . ونحن كل جماعة ما زالت تؤمن بمثل هذا الانتماء أو الالتحام .أما هي {الموضوع /المخاطب في المقطع العمودي} فأميرة فاتنة موشكة على الغرق .وهي في المقطع الحر الذي يليه غمامة عجلى يدعوها الشاعر إلى أن تتريث لان ثمة من العوامل ما يدعو إلى أناة عميقة ثرة .ومنذ البداية يضع الشاعر أمير ته في محيط متشابك من العلاقات تضع اللثام عن وجه ضبابي غائم . هي تبحث عن غير وجدته في النحن .ضيعها الغير الذين تعرفهم فصارت تبحث عن دليل لا يخلف يخرجها من الرحلة التيه وعن أهل جديرين بان يكونوا أهلا. وقد انحصر مطلبها في الـ"نحن" لان جدول الأفعال المـتـتابعة يحيل على مسؤوليات "النحن" تجاهها : حماية ومنع / دعوة وصحبة/ محو وإعادة كتابة /عتاب وهداية.
يقول الشاعر :
"ولم يزل أهلي جبابرة على الدنيا "
لذا قد يكون اسم الجبابرة مناسبا لان الأهل ينقسمون في القصيد إلى صنفين : صنف ملوم استحال جرادا متساقطا متفرقا وضيعا متدنيا انتماؤهم الزمني إلى عرب الأواخر : "هناك ...خلف مدائن العرب الأواخر "
أما الصنف الثاني فهم أهلها الباقون الجبابرة :
سنأتي / سيأتي اهلك الباقون .
وبما أن أهلها عرب سواء أكانوا من هذا الصنف أو من ذاك فهي أميرة عربية يغتالها بعض من أهلها وينقذها بعض آخر. تنفتح القصيدة إذن على صراع بطولي بضمير الجمع المتكلم تستحضر فيه كل عناصر الطبيعة تشخيصا وتصويرا .فلا شك أننا أمام ملحمة تتنوع فيها أساليب القص وتتنوع الضمائرمن حديث عن الغائب (هي) إلى خطاب (انت) إلى حديث عن الذات (نحن) .ويطغى الفخر والتمجيد والتعظيم في نسق تصاعدي لان الموضوع :" كرامة أمة وحماية تراث واثبات حق وتدعيم مصير وكيان " .(2) ولان اقرب الوجوه إلى أميرتنا العربية هو اعتبارها رمزا إلى القصيدة العربية فإنها تشف من وراء هذا الرمز عن اللغة العربية كمعادل فني لها وعن الأمة العربية ككل باعتبار أن الحال كالحال.
يدعو الشاعر من يخاطبها إلى أناة /عمق / جود .لان وجوها أخرى للصراع لا ينبغي أن تخفى تستدعي معالجة أنجع منها إشكالية الزمن ( عمرها / عمرنا ) وقد كفى العرب ما أتلفوه من عمر ومن زمن مهدور. فلا يقبل بحال إضاعة ما تبقى منه .ثم إشكالية الطريق الوعرة .فهي الطريق الوحيدة السالكة لكنها تستدعي المرور من ثقوب الإبر نحو حقيقة " جافلة" دونها أسوار وقيود ورحلة "هوى مجنون" وانطلاقا من بدء السفر/ الرحيل تتحد "هي" بالماء من خلال الخطاب :
فهيئي سببا لمجلسنا
...يا ماء .
مما يخلق توترا في الخطاب بين مستويين : مستوى الجوهر : جوهر القصيد/اللغة /الذات / الأمة ومستوى الراهن المعيش .وحين يطفو المستوى الأول يتأخر الثاني إلى الظل مكتفيا بان يكون "أهلا" .أما حين يطغى المستوى الثاني فينشا التعارض والتصادم بين " الجبابرة " و" الطوارف " بماء خاص بهم :
وسما ؤكم يا ماء كاذبة الوعود
الأرض ضيقة على أسفارنا
وفضاؤكم حرج يلفّ الصوت أن يلج المدى
سنمرّ من هذي الكوى .
وقد لا نجد تفسيرا لهذا التعارض إلا ما اعتاده جمال الصليعي من هجوم على الطوارف " الحداثويين " بتنظيراتهم الفاصلة بين ما يقال وما لا يقال , المحددة لما تجاوزه الزمن وما تطلبته تغيرات "التحضر " .ويبدو أن الجبابرة حتى على هذا المستوى من الصراع يركنون إلى ما تعودوه من بطولات الشعر العربي القديم ليسفهوا مزاعم الطوارف :
أوحى سراب الناس أن الأرض في نشء جديد
... همست فجاج الروح هذا الناس في وهم بعيد
وكان رهانهم جوهرا صافيا يقدر أن يعبر عن الراهن : "عن انتفاض الطير مذبوحا على شفة الحديد " . ولعل الاحتكام الفيصل لن يكون إلا للغة العربية ذاتها . وماذا أعطى الطوارف للغة العربية غير المسخ . وهنا يوظف الشاعر السخرية المرة ضمن تلك التقليبات : عربيةفصحى
عربية أخرى
عربية عجمى ...
وقد لا تكون ملحمة بدون سخرية "درامية "كهذه.
وتتسع دائرة الدلالة لتتخطى ما هو شعري أو لغوي إلى ما هو سياسي وحضاري فالصراع اعمق من حصره ضمن ثنائية الحداثة الغالبة والأصالة المستميتة .لأنه في حقيقته وقفة جبابرة أمام طاعون زاحف .وهنا تتجلى الملحمة في انصع صورها .نحن أمام قلة صامدة صمودا بطوليا في وجه طاعون يهدد الهوية والأرض والكيان متلبسا بأكثر من صورة وقناع . له على اللغة نزوات . وله على القصيد حملات . وله في السياسة والفكر شبهات باسم الزمان وسبقه .ملأوا السمع والأبصار .فاتحد بذلك الطوارف والطاعون على الوجود العربي لينكروا الوجوه ويصبغوا الهوية .
فكان أن ساد خطاب عربي /عربي سمي مرة بجلد الذات وسمي أخرى نقدا ذاتيا امتلأ بالسخرية والتهكم والتشكيك .وقرأ تاريخ العرب بالوقوف عند الهزائم والنكسات ومواطن الضعف ومظاهر التخلف والانحطاط...حفظه العرب ورددوه جيلا بعد جيل واستمتعوا به ونظروا له مبررين منصفين . إلا الجبابرة فقد ناهضوه ودفعوه .فقرأوا تاريخ العرب بما "توجب أن يقال فلا يقال" . قرأوه منذ الجاهلية إلى انتفاضة الحجارة الثانية .فما رأوا فيه إلا " دماء حمرا يسكبها الشموخ على اليباب " . وما خرجوا إلا بملحمة عز نظيرها .كيف لا وهذه أمة تحارب بعدد قليل وعدة أقل فتهزم جيش امبراطورية مترامية في ذي قار . وتحارب بجيش من المتطوعين فتهزم جيش امبراطورية أخرى لا تقل عظمة وجبروتا عن الأولى .وقل الأمر نفسه عن صمود طويل الأمد أمام حملات صليبية "عالمية" تخرج فيه منتصرة بعد كل حملة .وإذا لم تكن ممن يستريحون لبطولات الماضي فأمامك الحاضر بصور اكثر إشراقا مهما شكك الطوارف وأعوان الطاعون .سل عن حملة نابليون وسل عما لاقته جيوش الاستعمار في كل قطر وعن حروب التحرير وعنفوان الشموخ العربي مع عمر المختار وحروبه وتحدياته .وانظر كيف هزمت المقاومة عتاد الحداثة العسكري في جنوب لبنان وغزة .وأمامك فلسطين فهذه ملحمة بطولية لوحدها .ففيها يقاوم المواطن العربي مهما كان بسيطا مؤامرة عالمية تشكك في الحق وتزيّف مفاهيم السلم و" الطبع " .
أظنك لا تشك في صدق ملحمة الحجارة وهي محطات صغيرة من محطات ملاحم الجبابرة الذين يقول شاعرهم عن أصغر طفل فيهم :
عند طفل يولد التاريخ من نعليه إذ يمشي .
سامي بالحاج علي
دوز – تونس
الهوامش
1) محمود درويش – لماذا تركت الحصان وحيدا –ط.1 دار رياض الريس للنشر.لندن 1995 ص :118
2) جورج غريب –الشعر الملحمي –سلسلة الموسوع في الادب العربي –ط. دار الثقافة بيروت لبنان د.ت -ص :6
.