لا أظنّ أنّي في حاجة إلى
"يوم للآباء" لأذكر... لأنّ صورته ما فارقتني قطّ ولن تفارقني أبدا...
إليه هذا المقطع من نصّ أحسّ أنّه كتبه معي ويقرؤه الآن عنّي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
... لست تدري لماذا تذكّرت
اليوم أباك. أنت دائما تذكره. لكنّ صورته اليوم دون كلّ الأيّام ألحّت عليك كثيرا.
حيثما وجّهت كانت أمامك. يحاصرك طيفه حيثما ذهبت. ومازلت تبحث عن سبب لذلك...
عندما كنت صغيرا كانت أمّك
وإخوتك يلقّنونك دروسا في "الرجولة" الفارغة. كانوا يقولون لك إنّ
"الرجال" لا يبكون. كبرت قليلا فأصبحت تخجل أن تبكي. وشيئا فشيئا أصبحت
تخفي دموعك بل تبتلعها فلا تبكي إلى أن تطبّعت بعدم البكاء. وها إنّك اليوم جافّ
المشاعر. لا تبكي على أحد، لا تبكي على شيء، لا يبكيك أيّ سبب، ولا تشتاق إلى شيء،
لا تشتاق إلى أحد. حتّى إنّك عندما أنهيت مرحلتك الثانويّة وكنت تستعدّ لمغادرة
قريتك إلى العاصمة للدراسة هناك، لم تبك ولم تشعر بشيء رغم أنّك عطفت على أمّك
التي قامت إلى الباب تودّعك ولم تُخفِ دموعها وبكاءها ودعاءها.
لقد تعوّدت أن تضع عواطفك
في ثلاّجة. وقد نسيتها هناك حتّى ماتت أو خلتها ماتت.
فجأة ها هي تندلع داخلك
دفعة واحدة وبلا مقدّمات، تندلع دفعة واحدة دون سابق إنذار، تعلن وجودها طفرة
واحدة. ها هي ذي دموعك تسيل لأبسط المواقف. ولا تذكر منذ متى أصبحت تعيش هذه
الحالة، صرت مرهفا فجأة. فجأة ولد فيك إحساس بكلّ شيء. صرت تذكر أباك كثيرا، أباك
الذي كبُرتَ ولم تجده، قرّر الرحيل قبل أن تعرفه، قبل أن تقول له إنّك تحبّه
كثيرا، قبل أن ترتمي في حضنه، قبل أن تسمع صوته، قبل أن تشتمّ رائحته، قبل أن تشكو
إليه أحد الأطفال في الحيّ وقد ضربك أو افتكّ إحدى لعبك، قبل أن تقول له
"أبي"، قبل أن يقول لك "بُنيّ"...
كانت أمّك تحدّثك عن يوم
وفاته. وما زلت تذكر جيّدا ما كانت تقول. لقد كنت تبحث عنه، وأنت لم تنه سنتك
الثانية، في وجوه الحاضرين. كانوا يقولون، جهلا أو مكابرة، إنّ الهمّ في الصغر
يُنسى في الكبر. كانوا يهدّئون أمّك ويصبّرونها لمّا كانت تبكي وهي تراك باحثا عن أب
لن يعود، عن أمل لن يأتي، عن دفء غادر البيت في نعش...
كانوا مخطئين. فها إنّك
اليوم تكبر ويزداد وجه أبيك عليك إلحاحا، تزداد صورته في رأسك حضورا، يهيمن عليك.
ما زلت تقول خفية لنفسك حتّى لا يسمعك أحد "أبي، ليتك هنا". فعلا، ليته
هنا ليحمل عنك بعض الحمل، أو ربّما لينصحك إن احترت أو لينهرك إن أخطأت أو ليفاخر
بك إن نجحت...
اليوم تلحّ عليك تلك
الصورة أكثر من أيّ وقت مضى...
وما زلت تبحث عن سبب.