الاعضاء

الاثنين، 18 أبريل 2011

قراءة نقديّة لقصيدة الشّاعر العراقي محمّد الحافظ / زهور العربي نشرت في صحيفة المثقف

(يوم أمس في أور ماتت أجمل الملكات وآخر نساءها)
مليكة أور
ـ مفتتح
أور.. أبكي دما
تضمخي بترابك
علها تستيقظ من نومتها
لقد ماتت آخر مليكاتك
تهاوى عرشك
طفلتك السومرية
وريثة لكش
جميلة الجميلات
البارحة شيعتها الآلهة
بالحزن توشحن مدنك
وفي معبد الآلهة
أقيمت مجالس
نواح وبكاء

(القصيدة)
بين الماء وبين النهر
أقرب من نقطة ٍ
وأبعد من قدح ٍ
تغتسل دموعي فيه
أيتها الساقية
اسكبي حنانك في الكأس
وامنحيني بعض حياء
غداً
عيد ميلادها
أحبذ الرقص على طريقتي
تنتظرني هي
عند أول كأس ٍ أتجرعه
هل تشاركيني جنوني هذا......!!؟
أعتدت طفولتي
بتهشيم ذاتي
والبكاء على صدرها
متوحداً فيها
أنها آخر النساء.

مجهول أنت أيها الغري
علامتك الفارقة
هي حبيبتي
توسدت ترابك
أخضرّ روضاً
ورود بقوس قزح
أشجار تين وزيتون
لامس خدها أرضك
تفجرت
أنهار من عسل
لبن.. و خمر
نعم..
{ الجنة هنا تحت جسدها المسجى }
سأعتلي ناصيتك وأصرخ
حبيبتي
غداًعيد ميلادك
أرجوحتك فارغة
وأمنياتك مبعثرة على الأريكة
وفي زوايا الحجرة
بناتك يتشحن السواد
أمك أحنى ظهرها الفراق
وأنا في الطرف الآخر
أحتفل على طريقتي الخاصة
دموعي مدادا
لقصائد أكتبها لوعة أليك
نشيجي يوقظ أسلافي
يخنق في ّ الآهة

تعالي أيتها الساقية
اسكبي ما تبقى من خمر
في الزقّ ِ
أنا تعب ٌ
حبيبتي أبتسام
البارحة ماتت....!!
على هاتين اليدين اللعينتين
ماتت حبيبتي
أيتها الساقية أكثري
خمرا ورقصاً
الحفل سيبدأ
الضيوف لا أحد سواي
وأنا سأحتفل
وأرقص على طريقتي الخاصة
مّرري الكأس على الآخرين
أعني الضيوف
الذين هم لا أحد
وأعيديه إليّ
سأثمل.. وأثمل.. وأثمل
حبيبتي حين تعودني
تعشقني ثملا
أيتها الساقية
بين الحب وبين الكره
أقرب من نقطة
املئي هذا الزقّ واسقيني تباعاً
علّني أفقد صوابي وأكرهها
أعني أحبها
فهي مليكتي
وآخر النساء.

أجدني أمام قصيد من نوع آخر بطعم آخر ومعاني آخرى بل أجدني أمام حالة من الحزن العميق الذي اجتاحني فتقمّصت كلّ هذه الأحاسيس حتّى غرقت في شجن كبير...ولا أظنّ من يمرّ بهذه المرثيّة لا يتقمّص دور الشّاعر العراقي محمّد الحافظ صاحب هذه القصيدة التي تدمي القلب وتدمع العين...
إذن هو قصيد نثريّ بامتياز مساحته مترامية وآفاقه ممتدّة. مساحة بالرّغم من إنها قاتمة إلا أن شاعرنا صال فيها وجال وتدفّق فيها ليسكب جام حزنه وحرقته في مصابه الجلل..
لعلّ العنوان فيه مخاتلة أو تمويه وتشويق لأن نتوغّل بين السطور لمعرفة
من هي (مليكة أور)؟
وماذا تمثّل له؟
أو ما مدى علاقته بها؟
وما مدى علاقة هذه المليكة بمدينة أورالعراقيّة الموغلة في الحضارة والتّاريخ؟
ولماذا اختار شاعرنا أور دون غيرها من المدن العراقيّة الأخرى؟
يستهل الشّاعر قصيده بجملة إخباريّة ليعلن عن المكان والزّمان والحدث وكأنّني اسمع الخبر في نشرة إخباريّة أو أقرأه في صحيفة فكأنّ شاعرنا أراد أن يعرف كلّ العالم بمصابه ويعيش معه هذه الفاجعة التي أرّخ لها بنزف من قلبه ترك أثره جرحا بليغا لا أظنّه يندمل..
*يومَ أمسِ في أور ماتت أجملُ الملكاتِ وآخرُ نساءها

إذن ماتت آخر المليكات ولم يكتفي شاعرنا بل بموتها انقرضت كلّ النّساء يا لهول ما عاشه ويا لعمق حبّه لها إنها كلّ الدّنيا وكلّ النّساء . فكيف سيواصل رثاءه لها؟ فلو اتوقّف عند بداية القصيد لن اخلص ولن ينتهي تأويلي.سأقتصر على الأهم لأواصل مع باقي المعاني فالقصيدة مشبعة بشتّى المشاعر...

قسّم شاعرنا قصيده الى ثلاث اجزاء الأول الإعلان عن الخبر ثمّ (المفتتح)ثمّ (القصيدة)...وها أنا أتوغل في الجزء الثّاني..(مفتتح) ليبدأه شاعرنا بأفعال أمر (أبكي دما)...(تضمّخي بالتّراب) مخاطبا مدينة أور بعد الخبر الفاجعة لابدّ للمدينة أن تبكي آخر مليكاتها واشترط أن يكون الدّمع دما وأن يكون التّراب الحنّاء التي تتضمّخ بها ربّما ذلك يوقظ حبيبته من رقدتها
ـ مفتتح
أور.. أبكي دما
تضمخي بترابك
علها تستيقظ من نومتها
لقد ماتت آخر مليكاتك
تهاوى عرشك
طفلتك السومرية

... فالمصاب يستدعي أكثر والعرش تهاوى وبنهاية (وريثة لكش) انتهت حضارة بأسرها بموت الطفلة السّومريّة وريثة سلالة أور الثّالثة..(.وجميلة الجميلات) لقد حلّ العدم. وهاهو شاعرنا يستدرك بنبرة شديدة الأسى ويخبرنا بأنّ جميلته شيّعتها الآلهة والمدن لبست الأسود وفي المعبد أقيمت مجالس النّوّاح ما أمرّ وما ابلغ هذه الصّورة لن يكفي حبيبته أن يبكيها الأهل بل ألّهها وغيّر وظيفة المعبد من أجلها وأحاله مجلس نواح
وريثة لكش
جميلة الجميلات
البارحة شيعتها الآلهة
بالحزن توشحن مدنك
وفي معبد الآلهة
أقيمت مجالس
نواح وبكاء

 لقد أراد شاعرنا أن يسمو برفيقة الدّرب أثناء تشييعها وبكائها ورثائها من فرط حبّه وحسرته... لم لا؟  وهي التي عاش معها في مدينة الأحاسيس إلها يعبدها وتعبده...

بعد ان وصف الشاعر ردّ فعل الآلهة التي شيّعت حبيبته وعشنا معه مجلس البكاء في المعبد يعود منكسرا لينسكب في قصيدته ملاذه بعد أن فقد صدرها وحنانها ورفقتها ودفئها ليس له غير القصيدة والذّكرى القاتلة وتلك حال كلّ الشّعراء فالمهرب الآمن هو حضن القصيدة التي تستوعبهم بكلّ انفعالاتهم خاصّة منها الموجعة..
بين الماء وبين النهر
أقرب من نقطة ٍ
وأبعد من قدح ٍ

شدّتني هذه الصّورة وحيّرتني كيف ينفصل الماء عن النّهر وتجمع بينهما نقطة ويبعد بينهما قدح؟؟ إنها صورة فلسفيّة لقد استحال القدح أفسح من النّهر ليستحم فيه شاعرنا
تنتظرني هي
عند أول كأس ٍ أتجرعه
هل تشاركيني جنوني هذا......!!؟
أعتدت طفولتي
بتهشيم ذاتي
والبكاء على صدرها
متوحداً فيها
أنها آخر النساء.

ها هو يأمر السّاقية بأن تجود وتسكب ليشرب لكن أردها أن تترفق به حتّى لا يفقد توازنه فقط أراد ان يستعيد ذكرى احتفاله بعيد ميلادها يريد أن يعيش اللّحظة وكأنّ حبيبته معه هذه الحبيبة التي كانت تجاريه مثل السّاقية وتغدق عليه من حنانها حتّى ينتشي وتمتصّ انكساره وتجعل من صدرها مرفأ أمان ليبكي ويشكو ويعبث كطفل إنها هي آخر النّساء لقد حرمه الموت هذا الصّدر الذي يعطي مثل السّاقية ولا يملّ

يتّجه الشّاعر إلى وادي الغري ويخاطبه مباشرة (مجهول أنت أيّها الغري)
مجهول أنت أيها الغري
علامتك الفارقة
هي حبيبتي

 ربّما ليوبّخه أو لينقص من شأنه أو ربّما لأنّه يحقد عليه لمٍ لا وهو المقبرة التي تأوي حبيبته والتي اعتبرها علامته الفارقة فما أن لامست ترابه بجسدها حتّى فجّرت جوفه العقيم عسلا وخمرا واخضرّت روضا وورودا وتينا وزيتونا
توسدت ترابك
أخضرّ روضاً
ورود بقوس قزح
أشجار تين وزيتون
لامس خدها أرضك
تفجرت
أنهار من عسل
لبن.. و خمر
نعم

لقد استحال( وادي الغري) أو ( وادي السّلام) جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار حين دفنت فيه مليكة أور...كيف لم يحدث هذا من قبل والحال انّه مدفن سيّدنا هود وسيّدنا صالح..فماذا قصد الشّاعر؟؟
}الجنة هنا تحت جسدها المسجى}

يعلن الشّاعر وكأنّه يواسي نفسه ويخفّف من وجعه ليقرّ بأنّ الجنّة تحت جسدها المسجّى ولكن مع ذلك سيعتلي ناصيتها ويصرخ فهل قصد جبين حبيبته بالنّاصية؟؟ وكيف سيعتليها؟  ربّما يريد أن ينحني ليقبّلها ويطلق آهته لتشقّ سكون المقبرة وفي انحناءته سيعتلي أرفع المراتب
سأعتلي ناصيتك وأصرخ

يهدأ الشّاعر أو يضعف أكثر ويغرق في مناجاة مع حبيبته يحدّثها عن عيد ميلادها وكأنّه يلومها ويستعطفها لترجع لتحتفل معه وتملأ كلّ الفراغات التي تركتها
 (الارجوحة ..والأريكة وزوايا..الحجرة) هذا بالنّسبة للمكان.
حبيبتي
غداًعيد ميلادك
أرجوحتك فارغة
وأمنياتك مبعثرة على الأريكة
وفي زوايا الحجرة

 أمّا وجدانيّا فقد تركت أمنياتها مبعثرة و بنات يغمرهنّ الحزن وأمّا ثكلى قسم وسطها الفراق والشّاعر الذي يعترف قائلا (وأنا)...
بناتك يتشحن السواد
أمك أحنى ظهرها الفراق
وأنا في الطرف الآخر

لكن هو ألمه أعمق وتعبيره عنه يختلف عن الباقين هو يلقي بنفسه في قصائده ويوكل أمره لقلمه لكي يترجم لوعته كلمات رسائلا لحبيبته تغرقه في نشيج مرّ يمزّق صدره ربّما تعمّد الشّاعر استعمال هذه المفردة ليبرهن لنا عن عمق حزنه فلا تستطيع الدّموع ترجمته دون أن تلامس العبرة التي يضيق بها صدره وينفطر لها قلبه فهذا النشيج يخنق آهته ويوقظ أسلافه
أحتفل على طريقتي الخاصة
دموعي مدادا
لقصائد أكتبها لوعة أليك
نشيجي يوقظ أسلافي
يخنق فيّ الآهة
فمن يقصد الشّاعر بالأسلاف؟

فهل يقصد الأحبّة الذين فقدهم أم يقصد ذكرياته مع حبيبته؟ في الواقع أنا أميل للذّكريات لأنّ شاعرنا يحتفل بعيد ميلاد حبيبته في طقوس خاصّة جدّا ولا أظنّ أنّه سيتذكّر غيرها من الأموات

يشتدّ الألم بشاعرنا ويدخل حالة من الهلوسة أو الغياب عن الوعي فيخاطب السّاقية لتغدق عليه من الخمر حتّى يشرب نخب عيد ميلاد حبيبته فهو يحتفل وحدوه و يعوّض كلّ الضّيوف الذين كانوا يحضرون عيدها يريد من السّاقية أن تسكب كل ما تبقّى من الخمر في الزّق
تعالي أيتها الساقية
اسكبي ما تبقى من خمر
في الزقّ ِ
أنا تعب ٌ
حبيبتي أبتسام
البارحة ماتت....!!

فحبيبته أبتسام ماتت البارحة أنّه يردّد خبر موتها كلّ ما سنحت الفرصة بذلك وكأنّه لا يصدّق أو يريد أن يقتنع بصحّة الخبر..وهل فعلا اسمها ابتسام آم هو يريد أن يقول بموتها ماتت البسمة؟؟ انّه تعب حدّ الثّمالة وكأنّه يعاني حالة انفصام في شخصيّته
فمن ناحية يعلن وفاتها ومن ناحية أخرى يرقص طربا ليحيي عيد ميلادها كم هو موجوع وكم يصهده هجير وجدانه المحترق انّه يدمّر ذاته ويرفض وجوده من دونها ويلعن يديه فقد ماتت عليهما حبيبته ولم ترحماها
على هاتين اليدين اللعينتين
ماتت حبيبتي
أيتها الساقية أكثري
خمرا ورقصاً
الحفل سيبدأ
الضيوف لا أحد سواي
وأنا سأحتفل

يواصل شاعرنا مناجاته مع السّاقية ويرقص وينفجر بطريقته الخاصّة يتخاطب معها ويتقمّص شخصيّة الضّيوف الذين هم لا أحد
وأرقص على طريقتي الخاصة
مّرري الكأس على الآخرين
أعني الضيوف
الذين هم لا أحد
وأرقص على طريقتي الخاصة
مّرري الكأس على الآخرين
أعني الضيوف
الذين هم لا أحد

 يريد أن يكسر وحدته ويخرج من قوقعة القصيدة يريد أن يبوح بالوجع لمن يسمعه فالقلم أصم والورقة صمّاء والحبر اسود قاتم انّه يستعين بالسّاقية لأنّها تشبه حبيبته المعطاء التي تقبل عليه
وأعيديه إليّ
سأثمل.. وأثمل.. وأثمل
حبيبتي حين تعودني
تعشقني ثملا

وتعشقه حتّى حين يكون ثملا أنّها ملاذه ودواؤه وبلسم كلّ أوجاعه ومع ذلك يأمر السّاقية بأن تسكب كل ما بقي من الخمر ليشربه تباعا دون انقطاع
أيتها الساقية
بين الحب وبين الكره
أقرب من نقطة
املئي هذا الزقّ واسقيني تباعاً

علّه يفقد صوابه ويكرهها ليشفى لكنه يستدرك وبسرعة أنّه يريد أن يزيد من حبّها لكي يستمتع بهذا العذاب ولكي لا تموت بداخله..فلن يبرح حبّها قلبه ولن يعرف النّسيان طريقه إليه..لأنّها مليكته وآخر النّساء
علّني أفقد صوابي وأكرهها
أعني أحبها
فهي مليكتي
وآخر النساء

نصّ رثائيّ بطعم العلقم تشظّى فيه الشّاعر ألماً فخيّل إلي أنّني اسمع نشيجه وأحسست لوعته وحرقتني دموعه الحرّى فقد انسكب شاعرنا في قصيده بكلّ حرّيّة فأتى بوحه شفّافا صادقا ترجم كلّ معاناته واستعمل في ذلك أسلوبا سهلا ومباشرا في أغلب الأحيان وصورا ذكيّة ومعبّرة متماشية مع المعاني الغزيرة والعميقة التي حوتها السّطور وما بينها ورغم محاولة الشّاعر الظهور قويّا وذلك في اعتماده أفعال الأمر وامتلاك إرادة الفعل حتّى في لحظات عدم الوعي إلا انّه كان منكسرا ضعيفا في أغلب محطّات القصيد وله عذره فما استعمله من أوصاف واستعارات وانزياحا يدلّ بشدّة على مدى حبّه للفقيدة رحمها اللّه وألهمه جميل الصّبر والسّلوان.

برغم موضوع القصيدة وبرغم الألم الذي اجتاحني والعبرة التي خنقتني طيلة نتناولي لها إلاّ أنني اعترف إنني استمتعت واستفدت من حرفيّة أنامل الشّاعر في الرّسم بالكلمات فكانت لوحة فنّيّة غاية في الرّوعة لكن حين نتأمّلها ونفكّ رموزها نغرق في الشّجن ويتصاعد نشيجنا ليعصر صدورنا.مع اخلص التّحايا للشّاعر المحترم محمّد الحافظ.
 

هناك تعليقان (2):

  1. الشاعرة زهور العربي
    صباح الخيرات يا منجي آه من هذا القلب كم يسع
    العالم !
    كم تشبهني يا منجي أسعدك الله في الدّارين أيّها الأخ الودود الخلوق والغالي على قلبي جدّا
    باقات من الورد والودّ وآيات من الدّعاء الخالص لك

    ردحذف
  2. سلمتي اختنا الشاعرة زهور العربي اذ تناولت نصا بديعا وطفت بنا بمعالم روح نازفة
    تحية للشاعر محمد الحافظ وتحية لكي اختي العزيزة

    طبتما بخير وهناء

    سمير السليم

    ردحذف