جمال الصليعي .. معطيات بيوغرافية
مدينة دوز الواقعة في الجنوب الغربي من البلاد التونسية واحة صحراوية تهددها الرمال وتحميها ظلال النخيل. لم يعرف سكانها الاستقرار النهائي إلاّ منذ فترة ليست بعيدة. من زار المنطقة من الرحالة قبل القرن السابع عشر لم يذكروا أنّهم وجدوا مدينة بهذا الاسم. أشاروا إلى رمال مترامية ومسالك أو مهالك صحراوية وعرة. وتشهد واحات النخيل المحيطة بالمدينة من كلّ الجهات أنّها ليست قديمة العهد. التاريخ الشفوي المتناقل يرجع أصول المرازيق المستقرين بالمنطقة إلى قبائل بني سليم الوافدين من الجزيرة العربية إثر الغزوة الهلالية.
هم من البدو الرحل الذين لم يربطهم بالمنطقة غير استقرار أحد مرابطيهم الصالحين فيها ووفاته بها. فتقاطروا متجمعين حول مدفنه، ولم تنته موجات التوطين إلا بعد الفترة الاستعمارية.
مازال النمط الحضري يصارع البداوة في معيشة المرازيق. ومازال للانتماء القبلي و"العروشي" صوته الذي كثيرا ما يعلو فوق مفهوم المدينة والمواطنة. ومازالت ميولات المرازيق النفسية ومواقفهم الفكرية واعتباراتهم الأخلاقية بدوية صميمة مثلما بقيت لهجتهم عربية "فصيحة". كل واحد من هؤلاء المرازيق محكوم بولاءات قبلية تنطلق من العائلة إلى "العرش" إلى القبيلة بأسرها. وهم يعتبرون أنفسهم من "الأشراف" ومن "البدو الأقحاح" الذين لم يذلهم عمل بالأرض - " فهو متروك للخمّاسة "- ولم ترهقهم ضرائب فقد أعفاهم البايات منها.حياتهم : تفقد للأملاك ... ورحلة صحراوية سنوية للرعي وانتجاع ... ورحلة أخرى إلى أراضي القمح للمبادلة والمقايضة ... وما تبقى فهو للعلم والدين ... فلا عجب أن أجلتهم القبائل المجاورة ونظرت إليهم بوصفهم "شيوخ زوايا" و بركة دينية".
" المرزوقي" إذن نموذج "البدوي المتدين". يهوى الفروسية وركوب الخيل لكنه لا يرقى إلى تأسيس قبيلة "محاربة" تجير غيرها وتحميها. (فلقد كانت المرازيق غالبا قبيلة مجارة)... يحفظ القرآن وقليلا ما يعمل به. يبجّل السلطة ولكنه دائم الخروج عنها صعب الانقياد لها. ثقافته شفوية وموقفه من "المكتوب" يجمع بين القداسة والانتقاص. الترحال المر زوقي انقسم بفعل هذا الاندماج بين التدين والبداوة إلى صنفين صنف بدوي صريح واصل حياة الصحراء والرعي واتباع موارد المياه ... وصنف دعاه رزقه ودينه إلى القطع مع الترحال البدوي الصحراوي دون أن يتمكن من الركون إلى عالم التحضر و"التملك" . فجمع بين "الرحلة" و"الدين" بانتقالات بين القرى والمدن والأرياف مقرئا للقرآن "مؤدبا" للصبيان في الكتاتيب المنتشرة في كافة أرجاء البلاد التونسية، دون أن يستقر بمكان لأنه دائم العودة إلى البلدة/ الأم ...حيث القبيلة الأصل.
لقد وجد هؤلاء "المقرئون" أنفسهم في غربة دائمة و"تهميش" غريب. ثقافتهم القرآنية ومستواهم التعليمي يدعوهم إلى الترفع عن عامة الناس الأميين بدوا وحضرا ... لكن ارتحالهم حرمهم من شرف العلم عموديا وأفقيا. فالسلطة التي احتضنت وميزت العلماء بتعيينهم عدولا و"قضاء" و"عمالا" . خلقت منهم أهل "بيوتات" يشار إليها بالبنان فقرّبتهم الدوائر الرسمية إليها عند كل قرار. والعامة التي وجدت مصالحها مرتبطة بهم أعلتهم وبجلتهم ودانت لهم بكل أصناف التعظيم والإجلال. ولقد وجد "مقرئ القرآن" نفسه مبعدا عنهم رغم حفظه للقرآن وإلمامه بثقافة قد تكون أرفع من ثقافتهم إن لن تكن مساوية لها (لغة عربية، فقه، أدب عربي ...)
أما في مواطن ترحاله فلم يكن إلا غريبا يحفظ الصبيان القرآن الكريم بمقابل يقيم الأود. وقد لا يطيب له المقام أكثر من سنوات معدودة ينتقل إثرها إلى غيرها من كتاتيب المدن والقرى دون أن يرقى الإجلال الذي يجده من الأهالي إلى مرتبة "بيوتات" العلم والدين بها. ولذلك ناصب بعضهم العداء للخاصة والعامة، وترفعوا عنهم ولاذوا بترفعهم أنيسا لترحالهم واغترابهم.
كان والد شاعرنا جمال الصليعي من هؤلاء المقرئين . حفظ القرآن في الكتاتيب و"الخلوة" دون أن يلتحق بمؤسسة تعليم رسمية (جامع الزيتونة أو أحد فروعه مثلا)، أو شبه رسمية (الزوايا الكبرى). ثم عاش متنقلا بين مناطق مختلفة من الجنوب التونسي إلى أن التحق بالوظيفة العمومية كاتبا في مركز معتمدية دوز ثم كاتبا في البلدية . ولم يطل به المقام في الوظيفة. وعرف الاعتقال السياسي فقضى في السجن ثلاث سنوات . وفي سنة 1974 سافر إلى ليبيا حيث وافته المنية هناك في جانفي 1978.
عرف والد شاعرنا بالنكتة الناقدة اللاذعة يترجم بها غالبا عن موقف واع بوضعيات اجتماعية وسياسية ,وعن سخرية من تناقضات صادقة أو زائفة يعيشها الآخرون دون أن يفطنوا إليها. ولقد كان ضحية لتعليقاته الساخرة ونكته اللاذعة، إذ دخل السجن بعد تعليق سياسي. تكشف النوادر المرويّة عنه أنه كان يضيق ذرعا بنمط المعيشة الذي يسود وبسلوك الناس المتقبل بواقع الحال إضافة إلى ترفع عن الآخرين بجميع أصنافهم حاكما ومحكوما، متعلما وأميا، بدويا مترحلا أو حضريا مستقرا... ويجمع بعض من يعرفه أنه كان مثقفا ثقافة عالية. فإلى جانب حفظه للقرآن وعلومه من ترتيل وتجويد – وقد وهبه الله صوتا مؤثرا يوقف الناس عن حاجتهم للاستمتاع بتلاوته- كان متمكنا من اللغة العربية وعلومها شغوفا بها. وتروي بعض النوادر أنه كان لا يتحدث إلا بها. أضاف إلى كلّ ذلك إطلاعا واسعا على الأدب العربي قديمه ومعاصره (مدرسة المهجر الخاصة) موثرا للشعر حفظا وشرحا. ولقد أورث ابنه كل هذه الميولات فكان يحفظه القرآن ويطلعه مبكرا على ما يقرأ من معلقات أو قصائد تراثية أو معاصرة ويدفعه إلى حفظها. ولا عجب أن يتعلق الصّبي بوالده وأن يندفع إلى القرآن والشعر واللغة وأن ينغرس هذا الشغف في نفسيته فيترك فيه بصمات واضحة.
ولد شاعرنا في 25 نوفمبر سنة 1955 في ليلة باردة إثر زواج أول لم يعمر طويلا. فارق الأب زوجته واصطحب معه ابنه وحيدين بين القرى والمدن والأرياف. ولا شك أنّ الطلاق أشعره باليتم، وجعل الإحساس بمرارة الحياة في ظلّ غياب الأم يراوده مبكرا. يكتب جمال في دفتره المدرسي عن فراق والدته بأنه كان "فقدانا لينبوع الحنان المتدفق أمام تيارات الألم والأنين". كان الأب خلال هذه السنوات المبكرة في حياة شاعرنا منصرفا لابنه مربيا ومعلما. وكان الابن متنعما بعاطفة الأبوة الخالصة إليه وحده . وسحر حقا بعالم أبيه القرآني والأدبي والشعري ... عالم اللغة العربية في أصفى مصادرها.
امتدت هذه المعيشة الثنائية المترحلة إلى أن وصل شاعرنا سن المرهقة. لم يكن مزاج الأب صافيا تماما. فنوعية حياة كحياته تدفعه أحيانا إلى قسوة مؤثرة في طفله... لكنها تدفعه أيضا إلى تقرب مؤثر أيضا... نعمة الرضا والعطف مشروطة بتحقق الصورة التي يريدها الأب أن تكون في ابنه . ولقد جاهد جمال الصليعي أن يكون كما يرضى عنه أبوه. حفظ معلقات وقصائد برمتها دون أن يعي منها حرفا... ولا شك أنه قد حفظ من القرآن قدرا كبيرا... وترسخ في النفس ألم كبيرا يتحدث عنه سنة 1971 قائلا : "ليس لأحد غيري أن يعرف من أنا إلا إذا كان أحد أبناء الألم مثلي، أما السعداء فلا يعرفون ولن يعرفوا عن حقيقـتي شيئا".
أثناء هذه السنين الطويلة كان لابد أن يلتحق جمال الصليعي بالمدرسة. لكنه لم يعرف الانتظام في مدرسة واحدة. كان أحيانا ينتقل من مدرسة إلى أخرى خلال سنة دراسية واحدة حسب ما تمليه ظروف عمل الأب. كان يتركه عند أحد اخوته إلى أن يستقرّ له الأمر بأحد الكتاتيب. ثم يعود لحمله معه حيث يتم سنته الدراسية معه* . وهذا الترحال المتواصل والاغتراب المستمر والاضطراب الدائم أورث جمال الصليعي حبا لموطنه وشوقا غالبا إليه. ولعله لم يستطع إلى حدّ الآن الخروج من تناقض الرحلة والقرار. للترحال سحره وللاستقرار نعيمه. وهو مشدود بينهما دون يقين. إن استقر طلب الرحيل وإن ارتحل حنّ إلى الاستقرار. ونصب العينين دائما عالم الصحراء والبداوة و"المرازيق"، رغم أنه بشكل من الأشكال غريب هنا وهناك.
فجأة يقرر الأب الزواج ثانية ويختار زوجة لا تكبر ابنه بغير ثلاث سنوات ! ويطلب من ابنه أن يتقبل الأمر وأن يعيش معهما في موطن غربة آخر. لم يتقبل الابن ذلك . وكان لهذه الحادثة وقعها الأليم في نفسه حسب تعبيره. كان جمال الصليعي في سنته الثالثة من العليم الثانوي عندما قرر الرحيل النهائي عن أبيه وعن وطنه كله. هرب في ظل غياب التفاهم وانعدام الانسجام تاركا بيت الأسرة مهاجرا إلى ليبيا منقطعا عن الدراسة وهو لم يتمم السابعة عشرة من العمر. وكان ذلك إعلانا لقطيعة صعبة مع أب "معبود". ولا شك أن الأمر قد خلف خدشا ما لأي تصور ممكن عن عالم المرأة الذي كان منذ البدء مخدوشا بفعل غياب الأم طيلة سني الطفولة والمراهقة. وهي خدوش مثل الشروخ التي أصابت صورة الأب قد دفعت الابن إلى معاناة تمزق نفسي كان وراء قرار الهرب والهجرة وكان وراء حنين متأصّل في النفس إلى عالم ماض صاف نقي لا يمكن أن يرقى إليه أيّ واقع قائم ولا يمكن أن يطاله أيّ مستقبل ممكن مهما تحققت الأماني والأحلام. عالم الأبوة المعبودة كان يتماهى بما يصوّره الأب عن حضارة عربية أسسها القرآن وخلدها الأدب وصورها الشعر وحضنتها الضاد... وقد ضاع العالم بصفحتيه الذاتية والحضارية.
يتوفى الأب في البلاد نفسها التي كان يعيش فيها الابن (ليبيا) سنة 1978 ويدفن دون أن يحضر الابن جنازة أبيه. لكنه يعود بعد سنة كاملة 1979 وقد قرّر أن يفارق هجرته مختارا أن يعيش في تونس العاصمة. لقد عاد جمال من غربته دون أن يتزوّد بما يضمن له الاستقرار في مدينته.
إن التنقل بين قرى الجنوب ومدنه، ثم الهجرة إلى ليبيا والعمل في تونس العاصمة يفسر غياب العلاقات الحميمة التي كان من الممكن أن تنشأ في بيئة لا يمكن أن تعرف فيها للحياة مذاقا حلوا من دونها. وهذا الغياب غرس في وجدان شاعرنا غربة أشد مرارة من غربة الوطن، غربة لا يعرف أبعادها إلا من عاش وحيدا في مدينته.
اشتغل في العاصمة أجيرا في أحد المحلات التجارية. لكنه لم يمكث طويلا إذ سرعان ما رفض منطق المدينة وعاد في شهر أوت 1980 إلى دوز ليعمل فترة تاجرا جوالا بين أسواق المنطقة. وقد غدت سيارته وسيلة عيش وبيتا يأوي إليه كلما أعلن النهار نهايته. لم تستمر هذه الحالة طويلا إذ سرعان ما باع السيارة وأصبح يجوب شوارع المدينة لا يجد سبيلا لسد رمقه.
فجأة في سنة 1981 يتزوج جمال الصليعي قريبته في جمع بين الخيار الذاتي والرغبة في الاستقرار وبين سلطة العادات والتقاليد التي لا تزال إلى زماننا تخيم بسطوتها على ظروف مختلفة من أوجه الحياة في مدينتنا. ولم تدم البطالة كثيرا. ولعلّ الحلم بتكوين أسرة والاستسلام لشروطها جعله يبحث عن عمل يجد فيه استقرارا يمسح سنوات الغربة والعذاب.
تقلب جمال الصليعي بين مهن مختلفة من بائع في دكان إلى بائع متجول إلى سائق لكنه لم يغفل عن المطالعة والمحاولة الإبداعية. كان منذ صغره قوي الحافظة، يلقي عن ظهر قلب قصائد جاهلية وفصولا مطوله من كتابات جبران النثرية. ومازال إلى حدّ الآن يعول على الحافظة فقط في إيداع قصائده وفي الحفاظ عليها. فهو لا يكتب شيئا لا أثناء تأليف القصيدة ولا بعد اكتمالها. إذ تظل القصيدة تجول في خاطره بين تنقيح وتصويب وإضافة وحذف إلى أن تتخذ صورتها النهائية فيقرأها معتمدا على الذاكرة. وقد لا تلامس الورق إلا بعد إلحاح كبير من محبيه الراغبين في قراءة نصه، والاحتفاظ به مكتوبا. وهي معضلة كبيرة، لا يملك لها تفسيرا إذ تحولت إلى عادة أصبح التخلص منها صعبا.
دخل جمال الصليعي طقوس الكتابة مبكرا. خط في دفتره المدرسي بعضا من الملامح الأولى لتلك التجارب التي توزعت بين الشعر وكتابة القصص القصيرة العاطفية والوعظية. أولى المحاولات التي مازال محتفظا بها تعود إلى سنة 1964. وهي قصيدة بعنوان "هيا بنا إلى الغاب". ومنذ 1967 امتلك ناصية العروض فأضحت قصائده صحيحة الوزن منها قصيدة "النصر" وقصيدة "البعيد" التي كان مطلعها:
دمـوعي على بعد الديـار هو اطل وقلبـي على فقـد الحبيـب يسـائل
وفي سنة 1972 رثى الزعيم جمال عبد الناصر بقصيدة عنوانها "النجم الآفل" يقول في مطلعها:
وا حسـرة القلب على كـوكب قد كـان في عليـائنـا يسطــع
وكان في سنة 1971 قد نشر بمجلة المعهد الثانوي حي المنارة بقابس قصيدة "المحروم" على بحر الرمل. وهو في كل كتاباته المبكرة يعزف على تداعيات السياسة (القدس –فلسطين) وعلى بكائيات الحرمات الذاتي. إضافة إلى غزليات محتشمة ! ونحن نعرف معرفة يقينية أن الشاعر جمال الصليعي مازال إلى حدّ الآن يكتب قصائد غزلية دون أن يسمح لها أن ترى النور ودون أن يعترف بها كشعر يرتضي إلقاءه أو نشره بين الناس. تغلف الموقف بالقضايا العروبية الأهم واندسّ الغزل في قصائده "المؤشرة" بين ثنايا الرمز الوطني. ولا شك أيضا أن تجارب عاطفية كبيرة طويت وأغلق عليها ستار حديدي من بينها تجربة فاشلة سبقت حادثة هروبه إلى ليبيا. تحدث عنها باختصار لا يتعدى القول بأنه قد وقع في "شرا ك" إحدى الفتيات الحسان".
كانت سنوات الهجرة وما بعدها سنوات صعبة عانى فيها الشاعر ظروفا قاهرة ومصاعب مادية واجتماعية جمة. ولم تستقر ظروفه إلا بعد الزواج سنة 1981 وبعد الوظيفة القارة كسائق لسيارة الإسعاف بالمستشفى المحلي بدوز. وبداية من هذا التاريخ ستنتظم مشاركاته الشعرية في التظاهرات الثقافية المختلفة مثل مهرجان الصحراء بدوز وعكاظيته الشعرية، ومثل أمسيات اتحادات الشغل بقبلي وقابس والتظاهرات المنجمية بالمتلوي والأمسيات الشعرية التي كانت أجزاء من الجامعة التونسية تحييها في شتى المناسبات (أول مشاركة بالجامعة التونسية ترجع إلى سنة 1986).
لم يقتصر نشاطه على إلقاء الشعر. فلقد أسس ناديا للشعر سنة 1987، احتضن المحاضرات ورعى المبتدئين وأفرد يوما للشعر الفصيح في عكاظيات مهرجان الصحراء ولامس الساحات التلمذية بمشاركاته الأدبية والثقافية (مجلات، مسابقات). ولذلك لا يستغرب أن يكون في جهته شاعرا معروفا ومطلوبا منذ بداية الثمانينات. وتعدت شهرته حدود الجهة. فقد عاد إلى ليبيا شاعرا سنة 1984. وتكفلت الإذاعة الليبية بإذاعة قصائده مرارا وتكرار. ويمكننا أن نعتبر سنة عودته من ليبيا 1979 بداية لمرحلة شعرية تتجاوز البدايات والمحاولات الأولى. وهي مرحلة ستمتد إلى سنة 1992 حين بدأ القصيدة الناضجة المتفرّدة في صوتها.
المرحلة الأولى تحوي قصائد تقليدية خطابية مباشرة يعلو فيها صوت الفخر وصوت الهجاء على التشكيل الجمالي الفني.
إذا ما رمنا إحصاء توثيقيا لكل ما عثرنا عليه من شعر جمال الصليعي مهما كانت سنة كتابته لحصلنا على هذا الجدول:
المحـاولات الأولية: ما قبل 1979
مرحلة التدرب: (1979 – 1992 )
مرحلة النضج والتفرد: (1992-2000)
ولم نحسب "الشعر الملحون" –أي ما كتب بالعاميّة – رغم اعترافنا بأن جمال الصليعي يجيد هذا الضرب من الإبداع ولو نزلنا عند رغبة الشاعر لما أحصينا كل القصائد التي تسبق سنة 1992، لأنه – وفق منظور النقد الذاتي- يريد أن يخرج إلى الناس مكتمل الصوت ناضج الصورة والعبارة. وللسائل أن يتساءل: هل من دلالة لسنوات الانتقال من مرحلة إلى أخرى؟
* 1979 هي سنة العودة النهائية من ليبيا ولقد كان أجيرا كريما عند عائلة كريمة من سكان درنة وفرت له العمل والمأوى والأجر . استطاع خلال هذه السنوات أن ينكبّ على مطالعات مهمة في حياته. خاصة كتاب الأغاني. ومن المؤكد أنه كان ينظم الشعر دون أن يحاول أو يستطيع الخروج به من دائرة خاصة مضيقة بحكم وضعه كمهاجر غريب صغير السنّ. لكنه منذ عودته عمل جاهدا على أن يصنع اسمه الشعري بإنتاج غزير ومشاركات نشطة وانتظام على الحضور في الفعاليات الثقافية المتاحة.
إن الخطاب الموجّه الذي يستنهض العزم ويزيل غبار التهجّن. والأسلوب المباشر الخلو من الغموض، والعبارة السهلة الواضحة في معناها, إن كل ذلك جعل شعره مطلوبا، لأن موجة الحماس الإيديولوجي كانت طاغية. والحدث الذي أملى مضمون قصائده الناقدة المحتجة على الأوضاع السياسية العربية لم يكن بعيدا عن 1979. إنّ توقيع اتفاقية السلام بين السادات وزعماء بني صهيون "حدث " لم يستطع جمال الصليعي أن يفكّ نفسه من إساره. وبقيت أشعاره حتى الأخيرة منها –الطوفان مثلا- تحتج عليه، وتعالج انعكاساته على النفس العربية المحبطة.
لقد وصل جمال الصليعي إلى ليبيا في سنّ السابعة عشرة موزعا بين تداعيات الحرمان الذاتي وهواجس الوضع الحضاري العربي. الأولى خلقت من غياب الأم وتناقضات الأب والترحال المتواصل. أمّا الثانية فوليدة ثقافة الأب وتعلقه الوجداني بالزعيم جمال عبد الناصر. والدليل الأوضح اسم ابنه البكر. كانت ليبيا طيلة السنوات التي قضاها شاعرنا فيها وما بعدها بوقا داعيا للقومية العربية يسبّح بأمجاد الماضي ويصب شتى أنواع الهجاء على الواقع القائم والحكام العرب ... فساعدت الشاعر على أن يتنكّر لجراحاته الذاتية وينكبّ على الخط السياسي حتى أن قصائده في تلك المرحلة لا تبتعد عن مقولات الخطاب الرسمي والإذاعي الليبي إلا بالوزن والقافية. واستمر الشاعر إلى يومنا هذا في إلجام الذاتيات والعمل على الشاغل السياسي الكبير . لكنه لم يتخلص من أن يكون دائما شاعرا متأثرا بما يسود القاع الشعبي والعمق المحيط. لا يحاول الفكاك منه ولا يتجاوزه بنقد أعمق أو معارضة أنضج. تأثر الأب وابنه بموجة متجاوبة مع الزعيم جمال عبد الناصر . وتأثر الشاعر بسائد "ليبي" يعمق الطروحات نفسها . وانعكس ذلك حتى على الخيارات الشعرية نفسها فظل وفيا للمتقبل "الشعبي " من شعر تفعيلي وشعر حرّ هو أقرب للنهج الكلاسيكي الذي رسخته السنون في الأذهان والأذواق. ولقد رأيناه في حرب الخليج الأولى والثانية ورأيناه في غيرها من "الأحداث" العربية يميل مع موقف "الشارع الشعبي". معتبرا نفسه "الناطق الشعري" بلسانه ... وبقدر مرونته في التماهي مع "السائد الشعبي المحيط" يكون صلبا عند الانغلاق عليه. ويضفي من الثوابت التي ترفع كل اللاءات تحصنا بها. ليكون الحاصل النهائي: شخصية عربية "بدوية" شعبية ملتزمة بثوابت فكرية وأخلاقية وفنية لا تتنازل عن أي ملمح من ملامحها مهما كان جزئيا ومهما كان المبّرر . حتى "آداب" المجاملة والمصانعة لا تفلح في اختراق حصنها فكيف بالمطامح والمطامع والمقامع. ليس جمال الصليعي شاعرا حساسا مرهف المشاعر رقيقها كما تصور بعض الأديبات شخصية الشعراء، فهو أقسى وأصلب، في الظاهر على الأقل. معاناته الذاتية علمته أن يكون كذلك حتى ينتصب على قدميه. كل الذاتيات لا تؤثر فيه. وكل المحليات والجهويات والإقليميات و"الحزبيات" لا تنفذ إلى قراره. وجدانه متفتح فقط على الحدث العربي العام والهمّ الشعري الخاص وما بعد هذين الاعتبارين فزبد يستحق أن يذهب جفاء.
* أما سنة 1992 فتشير إلى بداية ظهور الانعكاسات التي أعقبت حرب الخليج الثانية. هذا الحدث العاصف الذي أسفر بوضوح عن صعوبات حيوية تهدد الحلم العربي في العمق والصميم. لم يعد حلمنا محتاجا فقط إلى وعي شعبي يغير الأنظمة لتتحدّ الأمة وتزول الحدود وينهار العدو. أذاقت حرب الخليج شاعرنا مرارة العجز والإحباط . وكشفت له عن سذاجة التصورات الوحدوية السابقة. وحاصرته بواقع يزداد رداءة واستسلاما ليختنق من جديد بالوحدة والغربة في نهج لم يعد يسير فيه إلاّ بعض "الشواذ". فانكبّ على صوته مؤنسه الوحيد في نهجه ذاك يراجعه ويجوده. ثمّ إنّ المحيط الشعري الذي يحتكّ به شاعرنا قد تغيّر. لم يعد يلقي فيسمع التصفيق ثم ينسحب. ثمة من ينقد ويثمن التجربة والصوت داعيا إلى ما هو أرقى وأنضج. توسعت الدوائر. وتعددت المنابر. ذرع بلاده طولا وعرضا. استدعى إلى ليبيا في احتفالات "الثورة" سنة 1984 وإلى اليمن في مهرجان ثقافي سنة 1995 وإلى العراق في مهرجان المربد سنة 1996 وإلى المغرب بمناسبة معرض الكتاب سنة 1998. انصب النقد على الخطابة والمباشرة وتقليدية القصائد. قاوم عناده مصرا على الوضوح. لقد أحبّ جمال الصليعي لغته. واستعذب طقوسها وامتطى صهوتها يمسك أعنتها. فانقادت له دون عنت وبادلته عشقها. وكان أن اشتغل لهيب الشوق بينهما شعرا يقيم كونا ويبني عوالم كلما ولجتها أذهلك صوت إيقاعها العذب ودقة معناها، وسحر صورتها.
في مرحلة التدرب عّبر جمال الصليعي على موجة الحرف متشحا بالهم أنيسا وبالرؤيا حلما ممكنا ينشد واقعا جميلا فسالت الينابيع وتفجّر البركان لغة أمضى من حدّ السيف تموج لترسم الصراخ والوحشة وتدبج بالحروف نواح النقمة والتحريض وتخنق قهقهة الذل والاستسلام. لكنه في مرحلة النضج والتفرد تراجع إلى أقرب الخطوط الخلفية وهو "الإيحائية الواضحة" التي تعتمد لغة لا تفضحها المباشرة ولا يسترها الغموض الكلّي، لغة تقرر وتفتح باب الاحتمال واسعا، تبتغي الإبانة عن لواعج الأشجان، تتجاوز الدنس والعهر إلى الطهارة، تساندها هبة إلهية في صوته الساحر لحظة الإنشاد إذ يرحل صداه في أرجاء المكان فارضا سيادته، فتبهت أصوات البقية في حضوره، يفضحها خجلها، فتنزوي وتتبعثر في الزوايا. وتلك هي مأساة المتشاعرين الذين يحضرون في غيابه، ويغيبون في حضوره وإن حضروا. وتبقى لغة جمال الصليعي تغتسل بصفائها ليتألق إشعاعها ويضيء نورها ظلمة التيه زمن الانكسار، زمن الخواء، زمن الفراغ الشعري، وترفع لواءها عاليا أنّ مملكة الشعر باقية لا تسقط وسلطانها لا يموت. فاكتملت بذلك أو قاربت الاكتمال شخصية جمال الصليعي الشعرية. ووقفت آخر قصائده "وادي النمل" دليلا على اكتمال ناضج وخط فني متفرد... ونظنّ أنّ في جرابه المزيد والمزيد، مادام هناك قلق فطري يعتريه، وهواجس متباينة تؤرقه تجعله يتوق شوقا لكتابة الأفضل. كتب عن نفسه سنة 1971 "أنا ينبوع متدفق من الألم والحرمان، ولدت في الظلام وسأموت غدا تحت سيول من النور الساطع" . فهل صدقتم معنا نبوءة الشعراء ؟
اعداد و تقديم:* سامي بالحاج علي *** المختار بن علي * 28 قصيدة أغلبها من الشعر العمودي 05 منها فقط هي من الشعر الحرّ 05 منها فقط هي من الشعر الحرّ 10 قصائد قد نضيف إليها قصيدة واحدة يعكف عليها الشاعر منذ فترة دون أن ينهيها. 05 منها هي من الشعر الحرّ والقصيدة الجديدة هي أيضا من الشعر الحرّ لكنها غير محتسبة ولم نحسب كذلك وادي النمل لجمعها بين الحرّ والخليلي. 17 محاولة
مدينة دوز الواقعة في الجنوب الغربي من البلاد التونسية واحة صحراوية تهددها الرمال وتحميها ظلال النخيل. لم يعرف سكانها الاستقرار النهائي إلاّ منذ فترة ليست بعيدة. من زار المنطقة من الرحالة قبل القرن السابع عشر لم يذكروا أنّهم وجدوا مدينة بهذا الاسم. أشاروا إلى رمال مترامية ومسالك أو مهالك صحراوية وعرة. وتشهد واحات النخيل المحيطة بالمدينة من كلّ الجهات أنّها ليست قديمة العهد. التاريخ الشفوي المتناقل يرجع أصول المرازيق المستقرين بالمنطقة إلى قبائل بني سليم الوافدين من الجزيرة العربية إثر الغزوة الهلالية.
هم من البدو الرحل الذين لم يربطهم بالمنطقة غير استقرار أحد مرابطيهم الصالحين فيها ووفاته بها. فتقاطروا متجمعين حول مدفنه، ولم تنته موجات التوطين إلا بعد الفترة الاستعمارية.
مازال النمط الحضري يصارع البداوة في معيشة المرازيق. ومازال للانتماء القبلي و"العروشي" صوته الذي كثيرا ما يعلو فوق مفهوم المدينة والمواطنة. ومازالت ميولات المرازيق النفسية ومواقفهم الفكرية واعتباراتهم الأخلاقية بدوية صميمة مثلما بقيت لهجتهم عربية "فصيحة". كل واحد من هؤلاء المرازيق محكوم بولاءات قبلية تنطلق من العائلة إلى "العرش" إلى القبيلة بأسرها. وهم يعتبرون أنفسهم من "الأشراف" ومن "البدو الأقحاح" الذين لم يذلهم عمل بالأرض - " فهو متروك للخمّاسة "- ولم ترهقهم ضرائب فقد أعفاهم البايات منها.حياتهم : تفقد للأملاك ... ورحلة صحراوية سنوية للرعي وانتجاع ... ورحلة أخرى إلى أراضي القمح للمبادلة والمقايضة ... وما تبقى فهو للعلم والدين ... فلا عجب أن أجلتهم القبائل المجاورة ونظرت إليهم بوصفهم "شيوخ زوايا" و بركة دينية".
" المرزوقي" إذن نموذج "البدوي المتدين". يهوى الفروسية وركوب الخيل لكنه لا يرقى إلى تأسيس قبيلة "محاربة" تجير غيرها وتحميها. (فلقد كانت المرازيق غالبا قبيلة مجارة)... يحفظ القرآن وقليلا ما يعمل به. يبجّل السلطة ولكنه دائم الخروج عنها صعب الانقياد لها. ثقافته شفوية وموقفه من "المكتوب" يجمع بين القداسة والانتقاص. الترحال المر زوقي انقسم بفعل هذا الاندماج بين التدين والبداوة إلى صنفين صنف بدوي صريح واصل حياة الصحراء والرعي واتباع موارد المياه ... وصنف دعاه رزقه ودينه إلى القطع مع الترحال البدوي الصحراوي دون أن يتمكن من الركون إلى عالم التحضر و"التملك" . فجمع بين "الرحلة" و"الدين" بانتقالات بين القرى والمدن والأرياف مقرئا للقرآن "مؤدبا" للصبيان في الكتاتيب المنتشرة في كافة أرجاء البلاد التونسية، دون أن يستقر بمكان لأنه دائم العودة إلى البلدة/ الأم ...حيث القبيلة الأصل.
لقد وجد هؤلاء "المقرئون" أنفسهم في غربة دائمة و"تهميش" غريب. ثقافتهم القرآنية ومستواهم التعليمي يدعوهم إلى الترفع عن عامة الناس الأميين بدوا وحضرا ... لكن ارتحالهم حرمهم من شرف العلم عموديا وأفقيا. فالسلطة التي احتضنت وميزت العلماء بتعيينهم عدولا و"قضاء" و"عمالا" . خلقت منهم أهل "بيوتات" يشار إليها بالبنان فقرّبتهم الدوائر الرسمية إليها عند كل قرار. والعامة التي وجدت مصالحها مرتبطة بهم أعلتهم وبجلتهم ودانت لهم بكل أصناف التعظيم والإجلال. ولقد وجد "مقرئ القرآن" نفسه مبعدا عنهم رغم حفظه للقرآن وإلمامه بثقافة قد تكون أرفع من ثقافتهم إن لن تكن مساوية لها (لغة عربية، فقه، أدب عربي ...)
أما في مواطن ترحاله فلم يكن إلا غريبا يحفظ الصبيان القرآن الكريم بمقابل يقيم الأود. وقد لا يطيب له المقام أكثر من سنوات معدودة ينتقل إثرها إلى غيرها من كتاتيب المدن والقرى دون أن يرقى الإجلال الذي يجده من الأهالي إلى مرتبة "بيوتات" العلم والدين بها. ولذلك ناصب بعضهم العداء للخاصة والعامة، وترفعوا عنهم ولاذوا بترفعهم أنيسا لترحالهم واغترابهم.
كان والد شاعرنا جمال الصليعي من هؤلاء المقرئين . حفظ القرآن في الكتاتيب و"الخلوة" دون أن يلتحق بمؤسسة تعليم رسمية (جامع الزيتونة أو أحد فروعه مثلا)، أو شبه رسمية (الزوايا الكبرى). ثم عاش متنقلا بين مناطق مختلفة من الجنوب التونسي إلى أن التحق بالوظيفة العمومية كاتبا في مركز معتمدية دوز ثم كاتبا في البلدية . ولم يطل به المقام في الوظيفة. وعرف الاعتقال السياسي فقضى في السجن ثلاث سنوات . وفي سنة 1974 سافر إلى ليبيا حيث وافته المنية هناك في جانفي 1978.
عرف والد شاعرنا بالنكتة الناقدة اللاذعة يترجم بها غالبا عن موقف واع بوضعيات اجتماعية وسياسية ,وعن سخرية من تناقضات صادقة أو زائفة يعيشها الآخرون دون أن يفطنوا إليها. ولقد كان ضحية لتعليقاته الساخرة ونكته اللاذعة، إذ دخل السجن بعد تعليق سياسي. تكشف النوادر المرويّة عنه أنه كان يضيق ذرعا بنمط المعيشة الذي يسود وبسلوك الناس المتقبل بواقع الحال إضافة إلى ترفع عن الآخرين بجميع أصنافهم حاكما ومحكوما، متعلما وأميا، بدويا مترحلا أو حضريا مستقرا... ويجمع بعض من يعرفه أنه كان مثقفا ثقافة عالية. فإلى جانب حفظه للقرآن وعلومه من ترتيل وتجويد – وقد وهبه الله صوتا مؤثرا يوقف الناس عن حاجتهم للاستمتاع بتلاوته- كان متمكنا من اللغة العربية وعلومها شغوفا بها. وتروي بعض النوادر أنه كان لا يتحدث إلا بها. أضاف إلى كلّ ذلك إطلاعا واسعا على الأدب العربي قديمه ومعاصره (مدرسة المهجر الخاصة) موثرا للشعر حفظا وشرحا. ولقد أورث ابنه كل هذه الميولات فكان يحفظه القرآن ويطلعه مبكرا على ما يقرأ من معلقات أو قصائد تراثية أو معاصرة ويدفعه إلى حفظها. ولا عجب أن يتعلق الصّبي بوالده وأن يندفع إلى القرآن والشعر واللغة وأن ينغرس هذا الشغف في نفسيته فيترك فيه بصمات واضحة.
ولد شاعرنا في 25 نوفمبر سنة 1955 في ليلة باردة إثر زواج أول لم يعمر طويلا. فارق الأب زوجته واصطحب معه ابنه وحيدين بين القرى والمدن والأرياف. ولا شك أنّ الطلاق أشعره باليتم، وجعل الإحساس بمرارة الحياة في ظلّ غياب الأم يراوده مبكرا. يكتب جمال في دفتره المدرسي عن فراق والدته بأنه كان "فقدانا لينبوع الحنان المتدفق أمام تيارات الألم والأنين". كان الأب خلال هذه السنوات المبكرة في حياة شاعرنا منصرفا لابنه مربيا ومعلما. وكان الابن متنعما بعاطفة الأبوة الخالصة إليه وحده . وسحر حقا بعالم أبيه القرآني والأدبي والشعري ... عالم اللغة العربية في أصفى مصادرها.
امتدت هذه المعيشة الثنائية المترحلة إلى أن وصل شاعرنا سن المرهقة. لم يكن مزاج الأب صافيا تماما. فنوعية حياة كحياته تدفعه أحيانا إلى قسوة مؤثرة في طفله... لكنها تدفعه أيضا إلى تقرب مؤثر أيضا... نعمة الرضا والعطف مشروطة بتحقق الصورة التي يريدها الأب أن تكون في ابنه . ولقد جاهد جمال الصليعي أن يكون كما يرضى عنه أبوه. حفظ معلقات وقصائد برمتها دون أن يعي منها حرفا... ولا شك أنه قد حفظ من القرآن قدرا كبيرا... وترسخ في النفس ألم كبيرا يتحدث عنه سنة 1971 قائلا : "ليس لأحد غيري أن يعرف من أنا إلا إذا كان أحد أبناء الألم مثلي، أما السعداء فلا يعرفون ولن يعرفوا عن حقيقـتي شيئا".
أثناء هذه السنين الطويلة كان لابد أن يلتحق جمال الصليعي بالمدرسة. لكنه لم يعرف الانتظام في مدرسة واحدة. كان أحيانا ينتقل من مدرسة إلى أخرى خلال سنة دراسية واحدة حسب ما تمليه ظروف عمل الأب. كان يتركه عند أحد اخوته إلى أن يستقرّ له الأمر بأحد الكتاتيب. ثم يعود لحمله معه حيث يتم سنته الدراسية معه* . وهذا الترحال المتواصل والاغتراب المستمر والاضطراب الدائم أورث جمال الصليعي حبا لموطنه وشوقا غالبا إليه. ولعله لم يستطع إلى حدّ الآن الخروج من تناقض الرحلة والقرار. للترحال سحره وللاستقرار نعيمه. وهو مشدود بينهما دون يقين. إن استقر طلب الرحيل وإن ارتحل حنّ إلى الاستقرار. ونصب العينين دائما عالم الصحراء والبداوة و"المرازيق"، رغم أنه بشكل من الأشكال غريب هنا وهناك.
فجأة يقرر الأب الزواج ثانية ويختار زوجة لا تكبر ابنه بغير ثلاث سنوات ! ويطلب من ابنه أن يتقبل الأمر وأن يعيش معهما في موطن غربة آخر. لم يتقبل الابن ذلك . وكان لهذه الحادثة وقعها الأليم في نفسه حسب تعبيره. كان جمال الصليعي في سنته الثالثة من العليم الثانوي عندما قرر الرحيل النهائي عن أبيه وعن وطنه كله. هرب في ظل غياب التفاهم وانعدام الانسجام تاركا بيت الأسرة مهاجرا إلى ليبيا منقطعا عن الدراسة وهو لم يتمم السابعة عشرة من العمر. وكان ذلك إعلانا لقطيعة صعبة مع أب "معبود". ولا شك أن الأمر قد خلف خدشا ما لأي تصور ممكن عن عالم المرأة الذي كان منذ البدء مخدوشا بفعل غياب الأم طيلة سني الطفولة والمراهقة. وهي خدوش مثل الشروخ التي أصابت صورة الأب قد دفعت الابن إلى معاناة تمزق نفسي كان وراء قرار الهرب والهجرة وكان وراء حنين متأصّل في النفس إلى عالم ماض صاف نقي لا يمكن أن يرقى إليه أيّ واقع قائم ولا يمكن أن يطاله أيّ مستقبل ممكن مهما تحققت الأماني والأحلام. عالم الأبوة المعبودة كان يتماهى بما يصوّره الأب عن حضارة عربية أسسها القرآن وخلدها الأدب وصورها الشعر وحضنتها الضاد... وقد ضاع العالم بصفحتيه الذاتية والحضارية.
يتوفى الأب في البلاد نفسها التي كان يعيش فيها الابن (ليبيا) سنة 1978 ويدفن دون أن يحضر الابن جنازة أبيه. لكنه يعود بعد سنة كاملة 1979 وقد قرّر أن يفارق هجرته مختارا أن يعيش في تونس العاصمة. لقد عاد جمال من غربته دون أن يتزوّد بما يضمن له الاستقرار في مدينته.
إن التنقل بين قرى الجنوب ومدنه، ثم الهجرة إلى ليبيا والعمل في تونس العاصمة يفسر غياب العلاقات الحميمة التي كان من الممكن أن تنشأ في بيئة لا يمكن أن تعرف فيها للحياة مذاقا حلوا من دونها. وهذا الغياب غرس في وجدان شاعرنا غربة أشد مرارة من غربة الوطن، غربة لا يعرف أبعادها إلا من عاش وحيدا في مدينته.
اشتغل في العاصمة أجيرا في أحد المحلات التجارية. لكنه لم يمكث طويلا إذ سرعان ما رفض منطق المدينة وعاد في شهر أوت 1980 إلى دوز ليعمل فترة تاجرا جوالا بين أسواق المنطقة. وقد غدت سيارته وسيلة عيش وبيتا يأوي إليه كلما أعلن النهار نهايته. لم تستمر هذه الحالة طويلا إذ سرعان ما باع السيارة وأصبح يجوب شوارع المدينة لا يجد سبيلا لسد رمقه.
فجأة في سنة 1981 يتزوج جمال الصليعي قريبته في جمع بين الخيار الذاتي والرغبة في الاستقرار وبين سلطة العادات والتقاليد التي لا تزال إلى زماننا تخيم بسطوتها على ظروف مختلفة من أوجه الحياة في مدينتنا. ولم تدم البطالة كثيرا. ولعلّ الحلم بتكوين أسرة والاستسلام لشروطها جعله يبحث عن عمل يجد فيه استقرارا يمسح سنوات الغربة والعذاب.
تقلب جمال الصليعي بين مهن مختلفة من بائع في دكان إلى بائع متجول إلى سائق لكنه لم يغفل عن المطالعة والمحاولة الإبداعية. كان منذ صغره قوي الحافظة، يلقي عن ظهر قلب قصائد جاهلية وفصولا مطوله من كتابات جبران النثرية. ومازال إلى حدّ الآن يعول على الحافظة فقط في إيداع قصائده وفي الحفاظ عليها. فهو لا يكتب شيئا لا أثناء تأليف القصيدة ولا بعد اكتمالها. إذ تظل القصيدة تجول في خاطره بين تنقيح وتصويب وإضافة وحذف إلى أن تتخذ صورتها النهائية فيقرأها معتمدا على الذاكرة. وقد لا تلامس الورق إلا بعد إلحاح كبير من محبيه الراغبين في قراءة نصه، والاحتفاظ به مكتوبا. وهي معضلة كبيرة، لا يملك لها تفسيرا إذ تحولت إلى عادة أصبح التخلص منها صعبا.
دخل جمال الصليعي طقوس الكتابة مبكرا. خط في دفتره المدرسي بعضا من الملامح الأولى لتلك التجارب التي توزعت بين الشعر وكتابة القصص القصيرة العاطفية والوعظية. أولى المحاولات التي مازال محتفظا بها تعود إلى سنة 1964. وهي قصيدة بعنوان "هيا بنا إلى الغاب". ومنذ 1967 امتلك ناصية العروض فأضحت قصائده صحيحة الوزن منها قصيدة "النصر" وقصيدة "البعيد" التي كان مطلعها:
دمـوعي على بعد الديـار هو اطل وقلبـي على فقـد الحبيـب يسـائل
وفي سنة 1972 رثى الزعيم جمال عبد الناصر بقصيدة عنوانها "النجم الآفل" يقول في مطلعها:
وا حسـرة القلب على كـوكب قد كـان في عليـائنـا يسطــع
وكان في سنة 1971 قد نشر بمجلة المعهد الثانوي حي المنارة بقابس قصيدة "المحروم" على بحر الرمل. وهو في كل كتاباته المبكرة يعزف على تداعيات السياسة (القدس –فلسطين) وعلى بكائيات الحرمات الذاتي. إضافة إلى غزليات محتشمة ! ونحن نعرف معرفة يقينية أن الشاعر جمال الصليعي مازال إلى حدّ الآن يكتب قصائد غزلية دون أن يسمح لها أن ترى النور ودون أن يعترف بها كشعر يرتضي إلقاءه أو نشره بين الناس. تغلف الموقف بالقضايا العروبية الأهم واندسّ الغزل في قصائده "المؤشرة" بين ثنايا الرمز الوطني. ولا شك أيضا أن تجارب عاطفية كبيرة طويت وأغلق عليها ستار حديدي من بينها تجربة فاشلة سبقت حادثة هروبه إلى ليبيا. تحدث عنها باختصار لا يتعدى القول بأنه قد وقع في "شرا ك" إحدى الفتيات الحسان".
كانت سنوات الهجرة وما بعدها سنوات صعبة عانى فيها الشاعر ظروفا قاهرة ومصاعب مادية واجتماعية جمة. ولم تستقر ظروفه إلا بعد الزواج سنة 1981 وبعد الوظيفة القارة كسائق لسيارة الإسعاف بالمستشفى المحلي بدوز. وبداية من هذا التاريخ ستنتظم مشاركاته الشعرية في التظاهرات الثقافية المختلفة مثل مهرجان الصحراء بدوز وعكاظيته الشعرية، ومثل أمسيات اتحادات الشغل بقبلي وقابس والتظاهرات المنجمية بالمتلوي والأمسيات الشعرية التي كانت أجزاء من الجامعة التونسية تحييها في شتى المناسبات (أول مشاركة بالجامعة التونسية ترجع إلى سنة 1986).
لم يقتصر نشاطه على إلقاء الشعر. فلقد أسس ناديا للشعر سنة 1987، احتضن المحاضرات ورعى المبتدئين وأفرد يوما للشعر الفصيح في عكاظيات مهرجان الصحراء ولامس الساحات التلمذية بمشاركاته الأدبية والثقافية (مجلات، مسابقات). ولذلك لا يستغرب أن يكون في جهته شاعرا معروفا ومطلوبا منذ بداية الثمانينات. وتعدت شهرته حدود الجهة. فقد عاد إلى ليبيا شاعرا سنة 1984. وتكفلت الإذاعة الليبية بإذاعة قصائده مرارا وتكرار. ويمكننا أن نعتبر سنة عودته من ليبيا 1979 بداية لمرحلة شعرية تتجاوز البدايات والمحاولات الأولى. وهي مرحلة ستمتد إلى سنة 1992 حين بدأ القصيدة الناضجة المتفرّدة في صوتها.
المرحلة الأولى تحوي قصائد تقليدية خطابية مباشرة يعلو فيها صوت الفخر وصوت الهجاء على التشكيل الجمالي الفني.
إذا ما رمنا إحصاء توثيقيا لكل ما عثرنا عليه من شعر جمال الصليعي مهما كانت سنة كتابته لحصلنا على هذا الجدول:
المحـاولات الأولية: ما قبل 1979
مرحلة التدرب: (1979 – 1992 )
مرحلة النضج والتفرد: (1992-2000)
ولم نحسب "الشعر الملحون" –أي ما كتب بالعاميّة – رغم اعترافنا بأن جمال الصليعي يجيد هذا الضرب من الإبداع ولو نزلنا عند رغبة الشاعر لما أحصينا كل القصائد التي تسبق سنة 1992، لأنه – وفق منظور النقد الذاتي- يريد أن يخرج إلى الناس مكتمل الصوت ناضج الصورة والعبارة. وللسائل أن يتساءل: هل من دلالة لسنوات الانتقال من مرحلة إلى أخرى؟
* 1979 هي سنة العودة النهائية من ليبيا ولقد كان أجيرا كريما عند عائلة كريمة من سكان درنة وفرت له العمل والمأوى والأجر . استطاع خلال هذه السنوات أن ينكبّ على مطالعات مهمة في حياته. خاصة كتاب الأغاني. ومن المؤكد أنه كان ينظم الشعر دون أن يحاول أو يستطيع الخروج به من دائرة خاصة مضيقة بحكم وضعه كمهاجر غريب صغير السنّ. لكنه منذ عودته عمل جاهدا على أن يصنع اسمه الشعري بإنتاج غزير ومشاركات نشطة وانتظام على الحضور في الفعاليات الثقافية المتاحة.
إن الخطاب الموجّه الذي يستنهض العزم ويزيل غبار التهجّن. والأسلوب المباشر الخلو من الغموض، والعبارة السهلة الواضحة في معناها, إن كل ذلك جعل شعره مطلوبا، لأن موجة الحماس الإيديولوجي كانت طاغية. والحدث الذي أملى مضمون قصائده الناقدة المحتجة على الأوضاع السياسية العربية لم يكن بعيدا عن 1979. إنّ توقيع اتفاقية السلام بين السادات وزعماء بني صهيون "حدث " لم يستطع جمال الصليعي أن يفكّ نفسه من إساره. وبقيت أشعاره حتى الأخيرة منها –الطوفان مثلا- تحتج عليه، وتعالج انعكاساته على النفس العربية المحبطة.
لقد وصل جمال الصليعي إلى ليبيا في سنّ السابعة عشرة موزعا بين تداعيات الحرمان الذاتي وهواجس الوضع الحضاري العربي. الأولى خلقت من غياب الأم وتناقضات الأب والترحال المتواصل. أمّا الثانية فوليدة ثقافة الأب وتعلقه الوجداني بالزعيم جمال عبد الناصر. والدليل الأوضح اسم ابنه البكر. كانت ليبيا طيلة السنوات التي قضاها شاعرنا فيها وما بعدها بوقا داعيا للقومية العربية يسبّح بأمجاد الماضي ويصب شتى أنواع الهجاء على الواقع القائم والحكام العرب ... فساعدت الشاعر على أن يتنكّر لجراحاته الذاتية وينكبّ على الخط السياسي حتى أن قصائده في تلك المرحلة لا تبتعد عن مقولات الخطاب الرسمي والإذاعي الليبي إلا بالوزن والقافية. واستمر الشاعر إلى يومنا هذا في إلجام الذاتيات والعمل على الشاغل السياسي الكبير . لكنه لم يتخلص من أن يكون دائما شاعرا متأثرا بما يسود القاع الشعبي والعمق المحيط. لا يحاول الفكاك منه ولا يتجاوزه بنقد أعمق أو معارضة أنضج. تأثر الأب وابنه بموجة متجاوبة مع الزعيم جمال عبد الناصر . وتأثر الشاعر بسائد "ليبي" يعمق الطروحات نفسها . وانعكس ذلك حتى على الخيارات الشعرية نفسها فظل وفيا للمتقبل "الشعبي " من شعر تفعيلي وشعر حرّ هو أقرب للنهج الكلاسيكي الذي رسخته السنون في الأذهان والأذواق. ولقد رأيناه في حرب الخليج الأولى والثانية ورأيناه في غيرها من "الأحداث" العربية يميل مع موقف "الشارع الشعبي". معتبرا نفسه "الناطق الشعري" بلسانه ... وبقدر مرونته في التماهي مع "السائد الشعبي المحيط" يكون صلبا عند الانغلاق عليه. ويضفي من الثوابت التي ترفع كل اللاءات تحصنا بها. ليكون الحاصل النهائي: شخصية عربية "بدوية" شعبية ملتزمة بثوابت فكرية وأخلاقية وفنية لا تتنازل عن أي ملمح من ملامحها مهما كان جزئيا ومهما كان المبّرر . حتى "آداب" المجاملة والمصانعة لا تفلح في اختراق حصنها فكيف بالمطامح والمطامع والمقامع. ليس جمال الصليعي شاعرا حساسا مرهف المشاعر رقيقها كما تصور بعض الأديبات شخصية الشعراء، فهو أقسى وأصلب، في الظاهر على الأقل. معاناته الذاتية علمته أن يكون كذلك حتى ينتصب على قدميه. كل الذاتيات لا تؤثر فيه. وكل المحليات والجهويات والإقليميات و"الحزبيات" لا تنفذ إلى قراره. وجدانه متفتح فقط على الحدث العربي العام والهمّ الشعري الخاص وما بعد هذين الاعتبارين فزبد يستحق أن يذهب جفاء.
* أما سنة 1992 فتشير إلى بداية ظهور الانعكاسات التي أعقبت حرب الخليج الثانية. هذا الحدث العاصف الذي أسفر بوضوح عن صعوبات حيوية تهدد الحلم العربي في العمق والصميم. لم يعد حلمنا محتاجا فقط إلى وعي شعبي يغير الأنظمة لتتحدّ الأمة وتزول الحدود وينهار العدو. أذاقت حرب الخليج شاعرنا مرارة العجز والإحباط . وكشفت له عن سذاجة التصورات الوحدوية السابقة. وحاصرته بواقع يزداد رداءة واستسلاما ليختنق من جديد بالوحدة والغربة في نهج لم يعد يسير فيه إلاّ بعض "الشواذ". فانكبّ على صوته مؤنسه الوحيد في نهجه ذاك يراجعه ويجوده. ثمّ إنّ المحيط الشعري الذي يحتكّ به شاعرنا قد تغيّر. لم يعد يلقي فيسمع التصفيق ثم ينسحب. ثمة من ينقد ويثمن التجربة والصوت داعيا إلى ما هو أرقى وأنضج. توسعت الدوائر. وتعددت المنابر. ذرع بلاده طولا وعرضا. استدعى إلى ليبيا في احتفالات "الثورة" سنة 1984 وإلى اليمن في مهرجان ثقافي سنة 1995 وإلى العراق في مهرجان المربد سنة 1996 وإلى المغرب بمناسبة معرض الكتاب سنة 1998. انصب النقد على الخطابة والمباشرة وتقليدية القصائد. قاوم عناده مصرا على الوضوح. لقد أحبّ جمال الصليعي لغته. واستعذب طقوسها وامتطى صهوتها يمسك أعنتها. فانقادت له دون عنت وبادلته عشقها. وكان أن اشتغل لهيب الشوق بينهما شعرا يقيم كونا ويبني عوالم كلما ولجتها أذهلك صوت إيقاعها العذب ودقة معناها، وسحر صورتها.
في مرحلة التدرب عّبر جمال الصليعي على موجة الحرف متشحا بالهم أنيسا وبالرؤيا حلما ممكنا ينشد واقعا جميلا فسالت الينابيع وتفجّر البركان لغة أمضى من حدّ السيف تموج لترسم الصراخ والوحشة وتدبج بالحروف نواح النقمة والتحريض وتخنق قهقهة الذل والاستسلام. لكنه في مرحلة النضج والتفرد تراجع إلى أقرب الخطوط الخلفية وهو "الإيحائية الواضحة" التي تعتمد لغة لا تفضحها المباشرة ولا يسترها الغموض الكلّي، لغة تقرر وتفتح باب الاحتمال واسعا، تبتغي الإبانة عن لواعج الأشجان، تتجاوز الدنس والعهر إلى الطهارة، تساندها هبة إلهية في صوته الساحر لحظة الإنشاد إذ يرحل صداه في أرجاء المكان فارضا سيادته، فتبهت أصوات البقية في حضوره، يفضحها خجلها، فتنزوي وتتبعثر في الزوايا. وتلك هي مأساة المتشاعرين الذين يحضرون في غيابه، ويغيبون في حضوره وإن حضروا. وتبقى لغة جمال الصليعي تغتسل بصفائها ليتألق إشعاعها ويضيء نورها ظلمة التيه زمن الانكسار، زمن الخواء، زمن الفراغ الشعري، وترفع لواءها عاليا أنّ مملكة الشعر باقية لا تسقط وسلطانها لا يموت. فاكتملت بذلك أو قاربت الاكتمال شخصية جمال الصليعي الشعرية. ووقفت آخر قصائده "وادي النمل" دليلا على اكتمال ناضج وخط فني متفرد... ونظنّ أنّ في جرابه المزيد والمزيد، مادام هناك قلق فطري يعتريه، وهواجس متباينة تؤرقه تجعله يتوق شوقا لكتابة الأفضل. كتب عن نفسه سنة 1971 "أنا ينبوع متدفق من الألم والحرمان، ولدت في الظلام وسأموت غدا تحت سيول من النور الساطع" . فهل صدقتم معنا نبوءة الشعراء ؟
اعداد و تقديم:* سامي بالحاج علي *** المختار بن علي * 28 قصيدة أغلبها من الشعر العمودي 05 منها فقط هي من الشعر الحرّ 05 منها فقط هي من الشعر الحرّ 10 قصائد قد نضيف إليها قصيدة واحدة يعكف عليها الشاعر منذ فترة دون أن ينهيها. 05 منها هي من الشعر الحرّ والقصيدة الجديدة هي أيضا من الشعر الحرّ لكنها غير محتسبة ولم نحسب كذلك وادي النمل لجمعها بين الحرّ والخليلي. 17 محاولة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق