لطالما قرأت لهذا الأديب الشّاعر العراقي محمد الحافظ ولطالما شدّني بفلسفته الشّعريّة إن صحّ التّعبير فله خطّ خاصّ ومعجم خاص وأسلوب خاصّ شدّني إليه بقوّة فقلائل هم من تشدّنا كتاباتهم في زمن الاكتظاظ والزّحمة وقلّة الجودة..لذلك افرح حين أقع على مثل هذه النّصوص المثقلة شعرا وشاعريّة وغربة وجوديّة والدّالة على هذا الغارق في الشّاعريّة حدّ المرض
يقول ابو القاسم الشّابي معرّفا الشّعر
يا شعر ُ أنتَ فمُ الشعـو *** رِ وصرخة ُ الروح ِ الكئيب ْ
ولقد أصاب في تعريفه فالكلمة التي لا تترجم مشاعرنا ولا تدمي أرواحنا لن تترك أثرا في المتلقّي بل لن تتعدّى حدود من (شخبطها) دون إحساس
لكن صاحبنا هنا في (شفاه دامعة) تعذّب حدّ الوجع لينسكب على ورقه متألّما بروح تئنّ بصمت رغم استعانته بقلمه هذا القلم المخلص الذي نقل غربة سيّده بكلّ أمانة وكان له أنيسا ساعة احتضاره أو مخاضه ليلد لنا هذا النّصّ البديع كحكم أوّلي أصدره عليه إلى حين التوغّل فيه واغتصاب خصوصيّته ..
منذ البداية ومن خلال العنوان يسقطنا الشّاعر في حيرة كبرى في
(شفاه دامعة) فكيف للشّفاه أن تذرف الدّموع؟
وما نوع هذه الدّموع ؟؟
ولن يكتفي بحيرتنا بل يضعنا في مضيق بين نقيضين (الشك واليقين) ليخنقنا أكثر في هذا المكان الذي تقرفص فيه ليبوح لنا وكأنّه يختبئ منّا أو ممّن سبب غربته ...ف(في لحظة ما) استفحل به الوجع ودفعه لأن يبوح بتبعيّتة لشخص ما تبعيّة وصلت إلى أن يلبسه ثوبا يحميه من القيض والبرد ويستر عورته .فهل يعقل أن يصل حبّه وثقته بهذا (الصّاحب) الى هذه الدّرجة ؟
ومن هو هذا الصّاحب ؟
وهل اختاره أم فرض عليه؟
في لحظة ما
بين الشك واليقين
ارتديت صاحبي مئزرا
فعلاوة على الاحتماء به من قسوة المناخ فهو يحفظه من الوساوس التي
تؤرّقه (متحفظا من نزق الهوس)
ومتدرّعا به ضدّ(وحش الظّلام) وأيّ ظلام يقصده هنا ؟ انّه ظلام يعيشه وينطلق من أعماق ذاته الموجوعة ..ها هو يرتمي في حضن الظّلام الحالك بعد أن تجاهل الشّفق وغيّب الغسق ( تناثر الغسق )
ورغم ذاك ستحضر مراياه في هذا السّواد لتزيد من غربته ووجعه وتعرّيه أكثر فأكثر بكلّ قسوة
مرايا تشذب وعوداً غائمة
تنضح أجسادا
متبلة بعوق الوقت
لكنّه يحاول الهرب فيوجّه مراياه نحو (الوعود ) التي على غير العادة كانت وعودا شرسة وقاتلة تنضح بأجساد مكبّلة من طرف( الوقت) فلم يفلح في الهرب والتّخفي ...انّه مهزوم في زمن القتل والسّواد وتكبيل الأحلام فمراياه كشفته رغم غياب النّور ورغم اختبائه في زاويته أو المضيق الذي تقرفص فيه مبتعدا عن بني جلدته ليتصارع مع أحاسيس ومظاهر طبيعيّة ولست أدري أهو ترفّع عن بني جنسه أم هو هروب منهم؟ أم هي هزيمة وعجز في التواصل والتّعايش معهم؟ فأعتزلهم ولا ادري هل كان مكرها أم مجبرا ؟؟ ففي كلّ الحلات هي هزيمة من نوع آ خر وغربة عميقة مع البشر لعلّ هذه القصيدة إحدى نتائجها وربّ ضارّة نافعة ...
متحفظا من نزق الهوس
وأنياب العتمة
تناثر الغسق
ادن الوقت متّهم أيضا هذا المجرم الذي شلّ هذه الأجساد ولا ادري من كان يقصد بتلك الأجساد ؟ فهل هي صاحبة تلك الوعود الغائمة ؟أم هي التي خانته وأوجعته ؟ وجعلته يعيش هذه الغربة ؟
مرايا تشذب وعوداً غائمة
تنضح أجسادا
متبلة بعوق الوقت
ويا لهذا الوقت كم حمّلناه من الأعباء فأغلب الكتّاب تجعل منه شمّاعة لتعلّق عليها كلّ الأوجاع وكلّ الخيبات مع الواقع ... ومع ذلك يواصل شاعرنا وصف حالته الدّامية ليتوغّل بنا في أعماقه ويصف عقمه بل يعلن موت الرّغبة فيه فقد غادره صوتها أو مات .حتّى لا يسمعه ويغرق في مساحات الهون أو العجز المفترس بأنامله المخضّبة بالدّماء ولكي يكون المنظر مقزّزا ومقرفا أكثر يغرق في لعاب لزج ورغم أن الصّورة غريبة إذ لسائل أن يسأل مادخل اللّعاب هنا ؟؟ الاّ انّها تدلّ على اختلاط الألم بالعزوف والاشمئزاز من ناحية ومن ناحية أخرى تبرز تخبّط صاحبنا في مساحة الهوان حتّى أصبح بمفعول اللعاب كا ئنا لزجا زئبقياّ يخبط عشوائيّا لا مقرّ له وعاجز عن الاستقرار في القرار والأفعال لذلك يهرب من مواجهة نفسه ويتّهم الرّغبة الهاربة منه ويلعب دور الضّحيّة بإتقان وهو قابع بين شكّه واليقين ...
يغادرني هديل الرغبة مرتبكا
تحتضنه مساحات الهون
بأنامل مدمّاة ولعاب لزج
يستطرد الشّاعر ليتوقف ويذكّرنا بأنّه لا يزال يرتدي صاحبه أو بمعنى أدق لا يزال تحت سيطرته مسلوب الإرادة يعبث به كما يشاء
(مازلت مرتديا صاحبي)
ويقتل وقته بقدح شاي ويعاقر شكّه الأسود بل يأكله كقطة بسكويت مغموسا بشايه والعكس أصحّ فهو من يقع فريسة لهذا الشّك القاتم ورغم ذلك بموّه ويواصل اتهامه للوقت ويعترف برتابته بل يصفه بأنّه شيطان يعبث بل يفاحش (مفاوزضعفه) أي بصحاري ومساحات ضعفه الشّاسعة ويدخله لا إراديا في المجون والخروج عن المألوف هو غير مسؤول عن أفعاله بل يسعى جاهدا ليثبت انّه مفعول به وفي كلّ ما يحدث لكي يبرّأ خطيئته ..
قدح شاي وقطعة شكّ ٍ اسود
وما زال الوقت هو ذا
شيطان يضاجع مفاوز ضعفي
تّهم اليد اللّئيمة يقودني إلى ذريعة ماجنة
والتّسلية ولكي يبرّأ خطيئته
يترك شاعرنا الشّيطان ليبحث له عن تعلّة أخرى تبرّر مجونه وهذه المرّة يتّهم (اليد اللّئيمة) هذه اليد التي أحالها غيمة تنزل رذاذ العفّة لكن لتقتل( طيور العفّة) وهنا أتوقف أمام هذه الصّورة التي أربكتني ألا يعني أن هذه اليد بعيدة عن البشر؟ أليست يدا إلهية خارقة لكنّها غاضبة ورذاذها لم يكن غيثا نافعا بل كان مبيدا لمظا هر الورع رغم عفّته
انّها غربة أخطر وأعمق يعيشها شاعرنا وتترجم حالته الوجوديّة والعقائديّة فإمّا انّه يتنصّل من المسؤوليّة أو انّه يشتكي غضب هذه القوّة الخارقة ويصف عقابها له
ويد لئيمة
تقتنص طيور الورع برذاذ العفة
يأخذ أنفاسه قليلا ويعود من آفاقه ليتوجّه له هذا الذي يسكنه ويطلب أن يغادره
لك أن ترحل بجزائر أورادك) (
وكأنّه يريد الخلاص من هذا الذي يسكنه انّه يرفضه ويرفض جزائره ووروده ويتوجّه له بالتّأنيب ويلومه بشدّة يريد الخلاص من آثامه التي أسقطه فيها دون رغبة منه كالنّميمة والألم وتغلغله بداخله كالورم
وإثم نميمتك
انك كثير ما آلمتني
كلما أشاطرك أسفارك
أراك متسكعا
على رمال أورامي
فأشمّ رائحتي
ربما إنا
ويواصل راجيا ليتك( تغادر أنفاسي ) هذا الذي استحوذ على كلّ شبر في كيانه بعد ان حاصره في عالمه الخارجي انّه يحبس أنفاسه بل متعايش معه منذ طفولته هنا يتّضح لي مع من كان يتصارع انّه ضميره أو وعيه الذي يلازمه ويتعبه بإدراكه لكلّ ما يعيشه في واقعه عبر منافذ إحساسه وفكره اليقظ ووجدانه الموجوع وذاته الغريبة
ليتك تغادر أنفاسي
أيها المعتّق في طفولتي
ويقرّ مرّة أخرى انّه لا يزال مرتديا صاحبه فلا قدرة له على الخلاص ويحاول أن يفسّر ملامحه
ما زلت مرتديا صاحبي
فيرى انّه ربّما وطنه ومن منّا لا يسكنه الوطن فهو المرض المتفشّي في جميع البشر ..؟ أو ربّما هو كأس من بنت العنب كرعه إلى آخر نقطة فيه الى حدّ أن ذبلت عينيه وربّما غفي قليلا لذلك ينهره او ينهر ذاته
ربما اسم يحمله وطني
أو كأساً كرعته حد الذبالة
.استفق يا ( أنت) وفي هذا الخطاب ثورة و احتقار خفيّ ويستطرد ليخاطب نفسه.
ها إني أقف أخيرا على هذا الصّاحب فلم يكن شخصا آخر بل كان ظلّه أو هو (الأنا ) الواعية التي تسكنه وتتصارع مع( الأنا العليا ) و(الهو) أو مع الوعي واللّاوعي
استفق يا أنت
استفق يا إنا
هذه الثلاثيّة التي ادّعى سجمونت فروي بانّها تكونّ شخصيّة كلّ إنسان في نظريّته الشّهيرة...(النّظريّة البنيويّة )
فكان الصّراع جدالا بين( الأنا والأنا الأعلى والهو ) وسعى شاعرنا إلى أن تكون الأنا هي الغالبة لكن برز ضعفها في أغلب القصيد إلى نهايته حيث حاول أن يستدرك أمره بأن عدّل كفّة الصّراع وقبل واقرّ بأنّ الرّحيل واحد وانّ الانفصال صعب لكن ساءه أن تكون نهايته مهينة فأختار أن يكون ذبولهما على فوهة بركان وليس غريبا عنه فعل الذّبول فلقد عاشه مع كأسه في موضع آخر في القصيد وانتهى بغفوة وها هو يريده على براكين المستقبل
أو خيباته طالما أنها ستكون كأسا آخر وليس أخيرا يذبل أو يموت ويقرّ بأنّ
رحيلهما كالكأس جفّ على شفاه دامعة وما أقسى ان تبكي الشّفاه من فرط الآلم وان يغلب شجنها حتّى بنت العنب التي يلجأ لها شاعرنا ليغيب ويذبل كلما اشتدت
غربته
وذبولنا على براكين الغد
كأسا آخر
فقد نشوته على شفاه دامعة
يقول جان بول سارتر الفيلسوف الوجودي (لا شيء مهم مثل وجود الإنسان) لكن أيّ وجود ؟ يقصد وأيّ انسان ؟ تلك مسألة اخرى المهم أنّ شاعرنا جسّد هذاه المقولة لقد عاش صراعا وجوديّا على كافّة الأصعدة في قصيدته االتي عجزت عن استيعاب الوجع الذي تشظّى في كامل أرجائها وتقاذفته حيرات وصراعات مع الذات الواعية و لا وعيه والآخر فكانت المعركة سجالا بين هذا الثّالوث الذي سعى إلى الإنسجام والتّعايش مع بعضه البعض لكن الألم كان الأوفر حظّا ولقد نجح شاعرنا في تصويرازماته بأسلوب لغويّ ثريّ ذكيّ ومدروس ومتنوّع المعاجم
ديني
(خطيئته الشك واليقين الورع المفازات العفّة )
نفسي ..او غريزيّة
( الرّغبة الإرتباك الهوس ..)
طبيعي
(الغسق الوقت براكين ..)
وأكثر من استعمال مفردات تصف الجسد وردود الفعل ( ,,,شفاه ودموع )
والإستعارات الذّكيّة والصّور الأخّاذة والخياليّة في أغلب الأحيان فجاء
قصيد نثري وارف المعاني متشعّب المقاصد وعميق الرّؤى وواسع الآفاق وليس غريبا على الشّاعر المميّز محمّد الحافظ مثل هذا التّميّز لكن ربّما طفحت الإنهزاميّة حتّى تجاوزت حيرته وتأمّله لتحجب عنه طريق التفاؤل وبالتّالي درب الخلاص ,,,فلقد حسم الأمر وحكم على كيانه وصاحبه أو
(ظلّه أو ..ضميره أو..الآخر أو ..الأنا العليا أو صاحب من صنع الخيال ) بالذّبول على براكين الغد أي المستقبل وهنا قمّة الوجع والانهزامية والنّظرة السّوداويّة في زمن الإحاطات.. فرسالة الكاتب تكون أجدى إذا زرعت في القارئ المحبط بذرة الأمل ..
ربّما لشاعرنا أسبابه ومع ذلك شدّني القصيد وأغراني بكتابة هذه القراءة لعلّني انجح في سبر بعض أغواره وأعرّي بعض ما أخفاه شاعرنا بذكائه المعتاد وغموضه الفلسفي الذّكيّ وربّما لم انجح في كشف كلّ الأسرار لكن هي محاولة ربّما يكملها غيري فالنصّ قابل للعديد من القراءات الأخرى ...ولكلّ قراءة جمالها .
بقلم الشّاعرة زهور العربي
شفاه دامعة
في لحظة ما
بين الشك واليقين
ارتديت صاحبي مئزرا
متحفظا من نزق الهوس
وأنياب العتمة
تناثر الغسق
مرايا تشذب وعوداً غائمة
تنضح أجسادا
متبلة بعوق الوقت
يغادرني هديل الرغبة مرتبكا
تحتضنه مساحات الهون
بأنامل مدمّاة ولعاب لزج
مازلت مرتديا صاحبي
قدح شاي وقطعة شكّ ٍ اسود
وما زال الوقت هو ذا
شيطان يضاجع مفاوز ضعفي
يقودني إلى ذريعة ماجنة
ويد لئيمة
تقتنص طيور الورع برذاذ العفة
لك أن ترحل بجزائر أورادك
وإثم نميمتك
انك كثير ما آلمتني
كلما أشاطرك أسفارك
أراك متسكعا
على رمال أورامي
فأشمّ رائحتي
ربما إنا
ليتك تغادر أنفاسي
أيها المعتّق في طفولتي
ما زلت مرتديا صاحبي
ربما اسم يحمله وطني
أو كأساً كرعته حد الذبالة
استفق يا أنت
استفق يا إنا
رحيلنا واحد
وذبولنا على براكين الغد
كأسا آخر
فقد نشوته على شفاه دامعة
السلام عليكم ايها الرّاقي الأخ المحترم الغالي منجي
ردحذفا
شكرا بحجم السّماء على روحك المعطاء..والكلمة ومحظوظة بأمثالك
فكم من الأصوات ذهبت ضحيّة التّقصير في التّعريف بها وبكلمتها رغم أهمّيتها
دمت ودامنشاطك وحضورك المشرّف
انت فهمتني من اول تلاقي على النت و اهتممت بنصوصك لأني وجدت فيها ما ابتغيه
ردحذفأما عن التعريف بأهل الأدب فهو من أوكد اهتماماتي