" مثل الخيوط الأولى للضّياء
انسابي بين جلدي و عظمي
أنيري ظلمتي بفجري "
كفّة كيْف اللّغة في هذه القطعة الشّعريّة للمنجي بن خليفة ترجح على أختها التي للكمّ ، إذ الشّاعر قصد القول الموجز قصدا ، ما دامت البلاغة أصلح لمعارك البثّ و التّقبّل و " أشفى لغلّ صدر متلقّ حسود " . فالتّثبيت مصارعة يكون بلطخة نوعيّة وجيزة و
الارنب البريّ الحذر تمطره طلقات بنادق نهمة فلا تكسره غير واحدة يتيمة من ماهر حاذق . و الطّعنة التي في الكتف غير التي في لفخذ غير التي في القلب . الطّعنة التي في مجامع الأضغان أثرها أعمق
و طاعنها أصوب و أعرف .
مقولة الكيف و الكمّ هذه يستوعبها الشّاعر المنجي بن خليفة فيجمّع رصاصات الشّعر رصاصة فريدة ويكثّف الكلم في ثلاثة أسطر شعريّة ، و لكن بكيفيّة تمكّنه من الصّمود و هو يغالب لغة جامحة مرّة وأخرى يعارك متقبّلا شرسا عنيدا ذكيّا يطمح أن يفحم أفق انتظاره المجنون بحركة فنيّة . هكذا دفعة واحدة . و ذاك أمر دونه احساس عجيب بالعلاقات الخفيّة بين الموجودات
لا يكترث بكمّ اللّفظ اكتراثه بكيفه ، سبيل شاعر عليم بمقامات البثّ و التّلقّي ، شاعر يخوض معارك التّواصل بأسلوب مادام البثّ أسلوبا و ما دام التّقبّل أسلوبا .
طلقة واحدة إذن أورد هذا الشّاعر التّونسيّ قطعته الشّعريّة فكانت ثلاثة أسطر لجملتين فعليّتين بسيطتين المخاطب فيهما واحد وحقلهما اللّغويّ الدّلاليّ واحد و أسلوبهما الانشائي واحد وهو أمر في غير معناه الحقيقي أفاد اِلتماس ليّن لمقام ليّن لين عريشة الياسمين . بل حتّى طرفا الخطاب إنّما هما اثنان في واحد أوّل يسري في الثّاني و ثان يستوعب أوّله ، كلّ في واحد و جمع في مفرد و لا آخر غيري أنا المتلقّي أعضّ على النّواجد و أستمسك بفرديّتي التي يعصف بها شاعر رسّام فيزيائي يفعل كلّ ما بوسعه كي يصهرني في بوتقة كون خطابه الواحد فأظلّ أعاند الانصهار إلى حين .
هو ذا نصّ الشّاعر المنجي بن خليفة كما مخاطَبه ينساب بين الجلد و العظم . و مادام الانسياب فعلا يستمرّ زمنيّا بداياته مفتوحة كما نهاياته . ومادام الانسياب وقتا مسترسلا قافلة تحمل حبيبتي تخطو طريق الشّام خطوا ثقيلا . و ما دام الانسياب حدثا من الشّاعر و إليه
و ما دام اللّسان أداة نفس هذا الشّاعر جاء الملفوظ محاكاة تامّة لذاك الشّعور بالاسترسال و انسابت لغته حرفا و حركة و تركيبا و صورة لا يمكن أن تحيل إلاّ على لحظة شعريّة تماهى فيها المنجي بن خليفة و مخاطَبه و أداة خطابه فكان الجميع ماء يجري به نهر منحدر من أعالي سلسلة جبال الشّعانبي أو جداريّة نجيب محفوظ التي افتتح بها رواية "الشّحّاذ "ينشد انسياب "سماء ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق و أبقار ترعى و لا علامة تدلّ على وطن من الأوطان " . ما أشبه تلك بهذه التي للشّاعر المنجي بن خليفة استرسالا وانسجاما
و تواصلا و حياة .
إنّ صاحب " الخيوط الأولى " يهيم باللّحظة الشّعريّة فتجيبه ليّنة طيّعة هائمة هي الأخرى .
و تهيم بالاثنين : الشّاعر و شعريّتة جهة ثالثة . إنّها اللّغة في أبهى زينة ، ملكة شمس تتّخذ لها عرشا في كبد السّماء تمدّ بحركتي ضمّ و فتح طويلتين في سطر القطعة الأوّل ، تمدّ خيوط الذّهب إلى أسفل (يُو / أُو لَى / يَا ) ثمّ تجذبها في السّطرين الثاني و الثّالث بحركة الجرّ الطّويل المعاكسة ( بِي/ دِي /مِي / نِي/ رِي/ تِي / رِي ) . و هكذا تظلّ تمضي وقتها تمارس حدث تصريف دقائق حبال الضّوء جيئة و ذهابا متناغمة ونشوة تسري خدرة مع نبض شاعر تخطف منه روعة التّكشّف كلّ قدرة ، ضحيّة ضيّعت كنه الجاني ، لم تسمّه و طفقت تستحضر ملمحا باهتا و أثر جريمة .
إنّها إذن لغة الشّاعر المنجي بن خليفة : حرفا و كلما و حركة و تركيبا و صورة، تأخذ وقتها في الجريان كما نشوة يعيشها صاحبها لتسري حلوة لسانا و سماعا بطيئة كما يذوب السّكّر .
و هكذا ترتسم هذه القطعة الشّعريّة في ذهن صاحبها لوحة تشكيليّة يتعاقب ليلها و نهارها: مشكاة ، خطّين بلونين ، اكتساح بياض لسواد وما على الزّائر إلاّ حسن قراءة و تدبّر .
لكأنّي بالشّاعر التّونسيّ المنجي بن خليفة تصعقه لحظة تجلّ شعريّة ، تسحره حقيقتها
و تسلبه قلبا و عقلا حتّى لا يعرف أن يسمّيها باسمها فيستجير بالبلاغة و تجيره بتشبيه تمثيليّ طلق كما الكلّ . قَدّم فيه المشبّه به على المشبّه في محاولة جديدة للالتفاف
من شاعر على متقبّل كي يشاركه لحظة خلق دوالّ لمدلولات خفيّة لا نعرف غير لونها المنساب المستمرّ المضيء أو طعمها الحلو العذب الصّافي النّقيّ ، ما دامت هذه القطعة الشّعريّة سردا وصفيّا و لا ماهية للموصوف .
أفيكون ذاك الموصوف همسه ؟
أفيكون لمسه ؟
أفيكون كلمه ؟
أفيكون نغمه ؟
أفيكون فكرة ؟
أفيكون رعشة ؟
أفيكون مكاشفه ؟
أفيكون أنثى ؟
كان من كان مخاطب الشّاعر المنجي بن خليفة . ما همّنا منه إذ حاول المُخاطِب حجبه عنّا ليطربنا شدّا و حيرة و تفكّرا. و قد فعل فما اكتفينا بغير مخاطَب متحكّم في رسم خرائط نهارات الشّاعر و ليله، مخاطَب تجلّى لشاعر " الخطوط الأولى " فأضاءه غير أنّ الشّاعر المستضيء عزّ به ذاك المتجلّي فدسّه و أخفى كنهه عنّا و أغرقنا في العتمة و ذاك هدف أهداف الأدب بصنوفه ما دام الغموض سبيل التدبّر و التّشويق أسلوبا فنّيّا قائم الذّات و قد خاضه بن خليفة باقتدار . خاضه شاعرا و رسّاما و طبيبا و فلكيّ اعراب و كميائيّ لغة و صيّادا .
الجمع في المفرد جعلني أطرق طويلا و أنا أمارس فعل الخوض في قطعة المنجي الشّعريّة منصهرا رغم أنفي ، مسترسلا مع الجميع ، هائما غائما خدرا سابحا منسابا كعطر حسناء باريسيّ هفا بين ثنايا و دروب تلك الاسطر فجمعني و إيّاها أوتاد قصيدة نثريّة طلقة بلا أسباب ...
(يتبع)
بديع لطيف
كان من يكون هذا المخاطب ماهمنا ..صدقت يا استاذي بديع فيكفينا هذا السحر الذي تكثف في لغته واسلوبه وشاعريته المتميزة
ردحذفويكفينا انه اثار وحفز هذا القلم البديع ليخط من الجمال ماشدنا هنا
حقيقة مقاربة جعلتنا نتوه فيها حتى تاهت عنا كلمات الشاعر في زحمتها لنعود ونجد انهما شكل صرحا من الابداع أخذنا بجماله لنسبح في بحر من المتعة والاستفادة
شكرا لكما وتقديراتي وتحياتي