الاعضاء

الثلاثاء، 2 أكتوبر 2012

أسيرة.. في عتمة الحكاية/ بشرى بن فاطمة






في هذا المكان، ثمّة أشياء تضيع لا أحد يعرف أهميتها سوى من حرم لذّة البقاء والتحليق في النور، حين يسقط المطر تصير كل الأرض حبة رمل، حلّ الربيع في المكان بعد الشتاء قالوا.. وأنا لازلت هنا تنقذني الأرض وحدها من عتمة الأسر أراني مثل عصفور يفتح له القفص لكنه بلا جناحين، أتحسس القضبان وأنتظر تسلل المطر إلى الغيم كي يروي ما تبقى من ياسمين..

تلامس بأصابعها الجدار في سكون لا يقطعه سوى وقع أنفاسها في المكان وهمهمات تربك الصمت،

تصيح بها الهواجس ثمة ما يخنق الهواء في الخارج !..

-وما يؤلمني هو أن أظل أسيرة العتمة أحاور بأنوثتي الضيق والملل لأتخلّص من فكرة الأسر، لأرى كل شيء على حقيقته، حتى لا يذهب ليلنا بمعنى الحكاية وحيدا بلا أجنحة ولا رسائل، لابد وأن نقبض على قناديل الشهوة لتنبعث لثغة الطفولة في وسائد تطارد حرية تتهجى الكتاب الأخير للأناشيد المذعورة، بلدي تأسره الأحرف الست وتأسرنا الرغبة في تحرير الكلمة، والمعنى يقسمنا شطرين فيخلق معنا الالتباس..

أي شطر يعكس الحقيقة كينونة الجسد أو الروح، التاريخ أو الجغرافيا..

أي ثلاثية تتصارع لتسجننا في الإطار الخادع للصورة: تلفيق، تزييف والتباس يغمس في القداسة فتضيع حقيقتنا..

ظل السجان يقف بخيالها.. تتحسس جسدها، ينتابها البرد القادم من الخارج ويتسلل إلى روحها قلق وخوف الأصوات القادمة من هناك..

هي في العتمة وحيدة تحمل أوزارها وحدها، وذاكرة بلدها الثقيلة تثور وتملأ الزنزانة بصراخها الصامت تستلقي على ظهرها فتطالعها الأشباح تهبّ من رقدتها على صوت السجان.. تشدّها الذاكرة إلى أول يوم، تطير وتحلق ترى بحرا يتلألأ.. وعلى ضفافه نوارس بيضاء وأطياف تغني وتدعو للغناء.. 

في الزنزانة ينوح شبحها وينتحب، تردّد الأصوات داخلها بصخب.. من ينقذها؟.. ومن ينقذ الحكاية من نهايتها؟..

-أسحب الحلم نحو نقطتي العمياء، أخلع عني القلب وأنتعل حجرا لا يذكّرني بتعاستي في الغياب.. تصيح منها الهواجس فتّتي الحجر بالحكاية، اعلمي أن شهرزاد كانت للبقاء تواقة احتالي على اليقظة ودعيها تتقدّم نحوك لتروي الحكاية، دعي لسانك يطرز لك الأحلام واستقري في منطقها..

يسكنها بعض فرح:- سأجعل من العتمة مسرحي وبألعوبة الحب سأتمرد على المستحيل بالمحال..

بلادي تضاريسها تخترق تجاعيد الجمال تغني انبلاج الفجر وتنغمس تشدّ لأقواسها سهاما تتريث بالحب لكنها على موعد مع مفاجآت تمطّط ثبات الأمكنة والخيبات المتتالية تطيل سراب أزمنتها.

بلادي !.. يا بلادي أنا لم أناضل دون هاجس ناضلت لأحتفي معك بالحياة، في الغد سأموت لأطهّر نفسي.. من خطيئة الحالمين والمجانين..

صوت شهرزاد في وجه كوابيسها، يفضح عتمة التاريخ وضيق المحيط والضّجيج المتحوّل الصاعد من الزنزانة نحو السماء.. جسدها منهك ومنتهك.. وروحها بلا ملامح.. تنتحب بين الأسطورة والواقع.. وتسائل الهواجس.. في الميثيولوجيا كانت الأنثى آلهة عاقبها التاريخ فصارت معاناتها خطيئة الجسد..

هي: تستسلم للأفكار وتغوص في حدائق ذاكرة تجردها من الحواس علّها تجد إحداهن لتقدّم لشهرزاد حكاية أخرى عن هزم الموت..

أين "هن" تسألها شهرزاد؟

تبحث عن الجواب وعيناها تجوب سقف الزنزانة: الفضاء مزدحم بهن لكن "هن" يغتالهن الغياب ويستسلمن للتغييب وينتابهن الفقر ولعنة الرحيل من جنّة الأعالي نحو سواحل مأهولة بنحيب بلاد مشحونة بالمرارات...

تصمت قليلا وتراقب شهرزاد وهي تبحث عن العلاج في عدالة المطر، مطر يغسل الرجال بنسوة يغتلن السّواد ببهجة.. فيهن حاملات القرابين، فيهن المغصوبات، فيهن المندلعات بأثدائهن يدهنّ بالتوابل أجساد مزيّنة بريش مبتلّ، مغرورات كالريح..

تصيح في العتمة، أين أنتن؟.. لنلملم عسل الشموع ونكسر به قضبان السجن لنستعيد فصاحة الحواس لنكون معها في التجربة أطراف فاعلة لا عناصر يسحقها الحنين..

لم أجّلت الليل بالحكاية؟ تسألها بصمت حزين، لفتح الطريق أمام أشباح رسمت لحفيداتك مستقبل النوم؟.. ليصبح حليب أثدائنا شحيحا يتلونا صلوات مكسورة بالغياب.. ويترك بعضا من أجسادنا يغفو في شهوة ليل ضباع تحرّك خطواتنا نحو بوّابات الشيطان بمكائد تفوح منها رائحة الدم، بسواد من يجمعون لنا القرائن لنكفّ عن الحياة يمدحون لنا الغياب بفصاحة الثواب، يهيّؤون لنا الظلام المشرّع خوفا من وقع مرور نورنا الصاخب..

انظري في الزنزانة..أصوات نساء يبلعهن الجزع مقسّمات نصف عاريات ونصف مقبورات في أردية الفناء أجهشن مغدورات برجالهن.. يشحذن رغباتهن في استجواب المرايا..

وفي لحظة صمتها تسمع تنهد طيف من بعيد، يبثّ بعض نور في المكان يمسك شهرزاد من يدها في حضور دافئ يزيح البرد عن المكان، هو طيف امرأة تركت سريرها المشبوق وأطلقت وحش الأساطير في الأرجاء بخورا ثم طفقت تغني..

"جميلة" تخبرها شهرزاد هي.. جميلة، تجيب عرفتها وعرفت أنها ستكون أوّل من سيأتي ليكسر عتمة الهواجس.

بصوت واثق تتكلم.. وحكايتي نابعة من التراب، منك ومنها، من الحب، من الحياة وقفت لأواجه شهريار من نوع آخر لم يتعرّض للخيانة لينتقم، بل كان كيانا جشعا يتناوب على اغتصاب أرضي ليحكم على كل شعبي بالإعدام، جزء من الحكاية أنا أو لعلّني الحكاية، مثلك رمز تتناساه الحروف فيهزم بثقته الموت.. أصغي جيّدا ففي صوتي أنفاس "هن" في مديح ريح توقظ الحكمة.. عندما أجبرت سيّدة البيت على حلّ شعرها لتغزل به حجابا غامضا.. وقفنا فوقفت لأضع لأنوثتي الأسباب ولأضرم بجسدي حرائق الطريق في تعسّف الحاضر كي أبني المدينة بالحجر العتيق.. وأترك وردة على جنازتي تكمل في الحياة المعنى..ورغم مرار الواقع والإهمال والتهميش.. كنت ما أريد وانتصرت فلا إرادة منتصرة إلا إن أرادتها ذواتنا نحن.. نحن من نكتب تاريخنا حتى لو الظروف خانقة مصرّة على إلغاءنا حتى لو الذاكرة أصابها العطب من فرط التفسير لن نسكت.. ولن نسمح للغبار بأن يجتاح رغبة بقائنا ولا تاريخ الجسد يضاعف وحشة الروح لن نسمح بأن تذبل التجربة بزفير الغفلة وكسل مخيّلة تبرد الرماد في فيض الأساطير، نحن لسن تعاويذ وهم.. واحدة للحب وأخرى للجمال وأخرى للحكمة، تزيّن المتاحف.. نحن لسنا أسماء في كتب ولاحريم في غرف.. نحن نجوم تحمي المسافر من التيه يستطيع كل حيّ أن يرصّع بها أيّامه ، نجوم تلمع فيها حدّة "عايشة القنديشة" وقوّتها وإغواءها، تدرك ريح الكاهنة البربرية عندما تعجّ في المكان حرية وعنادا وبسالة نقلتها إلى للا فاطمة نسومر لتهزم الإحتلال وتقنعني بقوّة الفكرة في التغيير.. أصغيا ففي أغنيتي أنفاسهن تشحذ الجسد الذي ترفعه رابعة العدوية إلى سماء القداسة بسمو الروح لتجهض زهرة اليأس فنبذل القلب ونشيّد تاريخا لا يلغينا...

نعم ها أنا أصغي إليها، رابعة مثل زهرة الرمال اتخذت لنفسها من الحجاب تقية وتقوى.. يصدح صوتها بموال الضمير تنشد الروح في الخلد: لم التمنّع إذا ناديت بالوصال..

رابعة تكسوها قلائد الحب الغيور لا تخلعه عنها الرياح العاتية، تملأ الحاضر بنا فنستمر دون أن نسمح بردم أسمائنا ونكتبنا أخريات بيدين مغلولتين وأفواه مكممة وعقول ممزّقة لا تعرف ما تريد..

تحلّ رابعة بنورها في المكان تنادي، أين شهرزاد الحكاية ؟! نعود إليك نعود خوفا من تأنيبك نتنهّد بين ذراعيك، ونقول لك إن الأخريات المترفات جعلنك رمزا آخر لامتهاننا فصرتي لا تسعفين الذاكرة حوّلك النبلاء إلى جارية عالمك الساحر مجرّد غرفة وسيّد لا اسم للحياة فيك، ولا صيغة تعبّر عن البقاء في استمرار حكاياتك..

كلما حملهم الحنين إليك اليوم بحثوا عنك ليجدوك مسجونة في لوحة من تصميمهم، فيصبحوا في الإلغاء ضائعين أعضاؤهم في الخريطة يسهر بها على لوحة شطرنج.. وبعضهم يتبادلون بك الأحلام المؤجّلة ويرصدون تلك الخرائط من شرفة السماء، و بعض من "هن" صرن مرضى بذرائع الكيمياء ينقدن للموت في مأدبة أعضاؤهن تشيؤ بالرغبة وتشفّ عن الحنين فتنة شهوة المبالغات، فقدن فيها اللذة ونكهة الملح..

"هي" ترى خلف هذا المشهد، أشباح تتحرّك وفي الحركة ما يريب تسأل لم أنت يا شهرزاد مصدومة؟ من هول ما تسمعين في تناقض حكايتنا؟ أنت شاهد عيان على تسمّم الزمن؟ انظري التاريخ يصنعك أسطورة ثم يسحقك بذكورة الفكرة..

ينطق الصمت المباح ويسكت الكلام المتاح في تداخل الأصوات وتفقد القدرة على الاستماع، التاريخ يتدثّر بحكايات يلفظها اللسان فيشرع الهذيان في المعنى.

المعنى في الحناجر الملتصقة حد الاختناق واقع يجبر اللغة على التخطيط للانتحار، حتى منح الحرية السجينة للمعنى.

كلّ شهرزاد اليوم لا تزال تمشي على الخيط الرفيع بين الموت والحياة في انعكاسات تاريخ ينقد الذات بالتساؤلات، فما الأهمية من تدوين الحكاية تصرخ؟.. تردد جميلة من بعيد، مع استيطان العنكبوت للعقل وانحلال مفردات اللغة إلى حروف تتقاذفها رياح الاحتضار في سماء الحلم الإنساني..

أيّ حكاية ستروي؟..

شهرزاد في صمتها الخانق تغرق

وتمتم رابعة: الخاصرة مطعونة تحمل رائحة الموت والانتحار في عتمة الخوف والخضوع تحت شجرة خريفية تمدّد الجسد الملوّن بخطايا التاريخ...

"هي" تمسك جميلة وتقودها إلى القضبان العالية:انظري بلادي مطعونة بحكاية لا معنى لها تستطيع اللغة إبرازه أما الأشكال فتلاحق تضاريس امرأة بجسد يتذوق طعم السياط، سياط الحس الإلهي المشوّش حكاية عارية ترشح بصراخ ونواح ذكورة متفسّخة تهيئ قبرا يليق بآثام الصحراء والسماء العاقر.. اللّون يسرق من دم الحكاية، أصبح الوطن لحظة في المسافة..عاهرا في اللّيل وتاجرا في النهار،

يا نساء المكان.. العقل خانته الذاكرة وصوت الخلخال يفجّر الحناجر المتيبّسة والقرط مصلوب على شهوة مائيّة خادعة لا تنتهي..

والآخر الواقف هناك ينظر إلينا.. ليس له ذنب في مرايا كسرتها قسوة الزمن الغابر شوّهتنا وألبستنا ملامح غريبة عنا، هوت في آبار خوف ترجو الخلاص..وكسر صليب الشك الذي يثقل كاهل المتيم بذنب حبها النابع من طقوس الخيانة ونفير الانتشاء بنبيذ الدماء في كأس تنتظر من يرفعها..

الحزن.. يترك الحلم نازفا يتباهى بالغموض..

تصرخ شهرزاد: امنحن أنفسكن لحظة واحدة للنجاة..تهمن بنا بعيدا عن تفاصيلنا الشريدة..

كيف لا تتعلّم البشريّة من مهالكها في ذاكرة يجتاحها الزهايمر من تكرار التفاصيل نفسها، ولكننا نحن هنا و لن تخطئنا الذاكرة..

"هي": أرادونا ضيفات على مطبخ القيصر لنحمل رائحة الشرق وصورة الارتجاف أمام اللحم العاري على مرأى من غرباء الله والشوارع..الحلم هناك يمضغ العتمة والذكورة تفتح السجون في كوابيس تنتهي بالصراخ اللامجدي واللامبالاة..

الشرق صار مملكة في مقبرة، الاشتعال فيها مغامرة لإعلان خيبة عظيمة تليق بانتصارات ماكرة وملعونة بسم سوء الفهم..

يا شهرزاد ترى من يبكي على الآخر أنا المدفونة مع بلادي على قبر بارد في انتظار الموت أم أنتن المنتصرات أمام التاريخ.. أم "هن" المهزومات بالحقد والضغينة..

الزمن يطلق بخار المطر ويختصر المستحيل في حقيبة ومحطّة انتظار تختارها الأشباح لعنة أو عهدا أو جملا في فاتحة نص وكتاب ضحيّة يكفّنها الغزاة بالموت للبحث عن سبب لبعث جديد.. للحكاية حكاية تسرد حقائق التركات المشاعة الخاضعة للالتباس التاريخي للقراءة العميقة والجدل الدائر في مناطق التأويل الساخنة.

أي علاقة بين الموت والحكاية؟ ونحن نعلم أن الحكاية لم تنفجر إلا لتوقف نزيف الدم فارتبط الاسم بذاكرة التدوين..تتساءل جميلة..

تتقدّم شهرزاد وتتأمل المكان المنعكس في الوجوه انتظرنني انتظرن موتي الذي هزم على طيات الورق.. عذرا أيها الموت.. أنا شهرزاد.. قضيت العمر راحلة بانتظار فجر القصيدة ولا تزال القصائد في انتظاري بعبير الكلام لا بحروف ترجمني لأتجرّع الفراق، شهرزاد التي أعلنت رفض العبودية وأشرق وجهها بنور العقل وإيمان قلب أمهلكم ألف ليلة وليلة لتدركوا أن الحب عطاء والكره فناء وعادة قتل النساء غباء..

-هي.. نصقل قيودنا بالريح وأحداقنا تتقاطر مغدورة في المدن.. أناس قمصانهم ملوّثة بالجريمة..

شهرزاد: نحن لسنا أشباح من ذخيرة الماضي تفتح لهن الكتب يغمسها المفسرون بالهلاك لتأخذ شكل حكمة تسري في عروقهن كصحوة ماء مذبوح.. يا نساء الأرض قدّمن للبحر درسا كي ينتابنا الفرح ويتّسع الأفق بالنشيد كي تعود فينا طبيعة الجلاميد ونفسّر كتبنا نحن بمعنى يزهر الليل ويطلق الأغاني كي يخيط الثقوب بين الأرض والسماء ويؤجّج طبيعة العناق في الأجساد ويعيد الجزر المخطوفة من التاريخ المهدر في الأقاصي لتنقذنا من التيه والاختناقات ونحمي دورنا العطشى أمام من يطلقون فحولتهم لإعلان خرائب مدن يتصاعد نحيبها الماجن ليلغيها من الفكرة حتى تصغي لترنيمة الكابوس في تأويل المعنى فتحوّلنا إلى جثة يأوى إليها لإخماد جمر الاستمرار.. 

-هي: تسير الذئاب في كل ركن وتنوء القطط المخادعة بعبارات الثناء وتهمّ الأيادي بالتصفيق 
تسير الألسنة باللوم.. والبلاد تلوّح لي بصمت النسيان..


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق