سفر إيفولكي
افتح عيني فيصر النعاس على إغلاقهما ، أجاهده ،أغالبه ،ويصر على أن يعيدني إلى نومي العميق في فندق الأربع عجلات ، أشم نسائم الفجر تتسلل من نافدة الحافلة محملة برطوبة كنت افتقدتها من سنوات بعيدة تقتحم خياشيمي رويدا رويدا بدا النعاس الثقيل يخرج من جمجمتي كنت اشعر انه يحتل راسي ويجبرني على التمدد في وضعي الغير المريح على مقعد جامد ، تتوقف الحافلة بمحطة الناظور احمل جسدي المتثاقل وانزل سلم ا
لحافلة اقبض بيد كسلى على محفظتي التي ثقلت خلال السفر بدون علم مني وافرك عيني من بقايا النعاس ، الناظور تجاوزت جرسيف حيث كان يجب أن أنزل وأذهب إلى بيتي عفوا إلى قصري العامر ، لا بأس 150 كيلومتر أخرى تنضاف إلى سفري لاكتشف أمكنة وأناس آخرين ، أحملق في المكان بؤس كبيرها هنا ، كأنه شيخ هرم يجثم على المكان ،المحطة هي بوابة المدينة وجهها ،وحين تجد محطة بمثل هده القذارة في مدينة جميلة كمدينة الناظور تشعر بالإحباط ، يأتي الصباح متثائبا وبطيء الخطوات ،ربما لم يأت من أي مكان كان هنا ، ربما بات ليلته مفترشا الكرطون مع هؤلاء المتسولين والمتشردين على باب المحطة وفي جوانبها المتسخة، ينام نومه المتقطع مستسلما لأصوات السكارى وخصومات أبناء الليل وهم يتعاركون على "همزة" تائهة وصلت للتو على حافلة متن مهترئة يتنافسون من سيظفر بوضعها على ألفه.
كان الصباح هنا مفترشا الأرض وملتحفا بليل المدينة ، رطوبة المكان تساعده على تحمل قساوة حرارة الصيف، ربما هو هنا مند سنوات يتسكع في طرقاتها وشوارعها ينتظر فرصته كي يتسلل إلى مليلية المحتلة ،أو يتسلق شاحنة نقل دولي عبر ميناء بني نصار، كما يفعل أطفالنا الهاربون من جحيم الحياة ، الصباح هنا وأنا قضيت أسبوعا كاملا بين البيضاء و ورزازات ابحث عنه كي استحم بنوره الوضاح واغسل تعبي وارمي به في وجه الليل الممتد ، آه أيها الصباح الصبوح ما أجملك وأنت تأتي بغلالتك البيضاء كأنك خارج للتو من مقصورة نوم هادئة ، ما أجملك وأنت توزع تحاياك على ملامح الفلاحين والعمال والأمهات وهن يهيئن شاي الفطور ، ما أجملك وأنت وتقود برفق أبوي بعض السكارى إلى بيوتهم كي لا يضيعوا في زحمة النهار القاسية خوفا عليهم من مخافر الشرطة ونزق الأطفال في الأزقة المتربة .
يا للعجب دخلنا وزرزازات فجرا وخرجنا منها فجرا كما اللصوص وحين أفقنا كان النهار جحيما حقيقيا كان لا سماء هناك فقط شمس معلقة مباشرة فوق المدينة في جوهرة الجنوب حيث كنا مع باقي المشاركين في مهرجان تماوايت أو" تماءوايت " كما أحب أن اسميه ،لأن الأشياء التي لا ماء فيها لا يعول عليها في نظر سلطان الماء ، لا فرق بين النهار والليل الممر المؤدي إلى الغرفة مظلم طوال الوقت فقط زر الكهرباء حين اضغطه ينير لي الطريق إلى مرقدي حيث أولج النهار في الليل والليل في النهار، في الساحة الخلفية للجوهرة حوض سباحة يقابله أسفل مبنى الفندق معبد أنيق وساقية أنيقة وكأني بها من خاطبها الشاعر "ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبقي خمور الأندرينا " ، كنت ادلف إلى الكرسي العالي قربها في الزاوية تماما اطلب بهدوء كاس فودكا استعين به على القيظ المنهمر من فوق رؤوسنا، أتحدث في أمور الشعر والأدب ومتع الحياة مع النساك ، هنا لا لغو في العبادة ، بل تكون باطلة وأنت وحيد تعب الكأسك وتملأ راسك فقط دون أن تسقي روحك ،لا يهمك من قهقه في هدا الركن او داك أو من ترنح على موسيقى او صاح طربا لسماع او رؤية شيء جميل كل مظاهر السعادة هنا تكون مشتركة ، وللكل الحق في اقتسامها ما دام قد استطاع إليها سبيلا ، كانت القصائد تنزلق فجأة من حناجر الشعراء وتصل مبلولة إلى مسامعنا ، والأغاني تتدفق رقراقة من كل ركن ، حتى حوض السباحة كم أغنية استحمت فيه ، وكم من قصيدة نزلت في مائه دون لباسها الداخلي ، كان صاحب جنة الذئب الهادي الجزيري يتأمل الجنة الجديدة في جوهرة الجنوب ويبتسم برضا وكأني به يتمنى لو كان حوض السباحة من نبيد كي ينقع فيه بعض القصائد والأغنيات ، حول هده العين الزرقاء المفتوحة في وجه السماء التي لا تغمض جفنها ليل نهار كنا نلتئم على وجبات الأكل ووجبات الشعر الخفيفة أيضا ، ونشرب من ماء الحياة ما يجعلنا قادرين على مواصلة السفر في الحياة بمتعة اكبر .
قصبة تاوريرت ، في بهوها الفسيح كانت الروح تأخذ فسحتها الجميلة وتسافر بين الق الأغنيات وسرنمة الموسيقى الراقية ومواويل الأطلس الشامخ ، أصوات ترحل بك إلى قمم الجبال وتتيه بك في منعرجات الخيال ومنابت الجمال، حقا سافرت في ثقافات وحضارات كثيرة ، كان يكفيني أن أجلس إلى كرسي وارتخي وان افتح ادني ممري إلى العالم، أحيانا كثيرة كنت أغلق عيني كي لا أرى أسوار القصبة البديعة واحلق عاليا بأجنحة الأنغام وصور القصائد ، مع إدريس المالومي شعرت أني طفل صغير أجري بين الحقول الخضراء في تلال الريف حيث ولدت ، ألاحق الفراشات الملونة أنصت بصفاء عميق إلى نقراته ، وكأني اكتشف معه كيف ينبض القلب حبا وغضبا وقلقا وكيف للروح أن تستمع إليه في دعة وأمان ، وكيف أني مع سميرة قادري سافرت في ضفاف الأبيض المتوسط بين جباله وسهوله وشواطئه الدافئة من شرقه إلى غربه ومن جنوبه إلى جماله ، دون أن أغادر مقعدي ،وأحسست أني لحظتها خارج للتو من حدائق الأندلس ورياضاتها الفاخرة ، أما الإخوة العكاف ومنذ الوصلة الموسيقية الأولى طوحوا بي بعيدا في إفريقيا العميقة وأمريكا مشدودا إلى وتر الرباب الأمازيغي وإيقاعات أحواش الملتهبة ، كنت اشعر في العديد من اللحظات أني وحيد في المكان رغم الأعداد الغفيرة للجمهور الحاضربالمئات، كان صمتهم وطريقتهم في الإنصات للجمال تعبر عن وعي حضاري وحب كبير للفن الراقي وتعطش أرواحهم الشفيفة إلى كل جميل ، أما مصطفى الوردي هدا اللعين الجميل فقد افرغ ما كان يعلق بقلبي من حزن دفين، فجر كل دموعي التي كتمتها عن الحاضرين وهو يغني "لحلام الغدارة "بكل الشجن الذي فيها .
في حلق الوادي ببومالن دادس حيث الوادي يغدق على الناس بغير حساب، قطفت بعض فاكهة التين التي خبأتها لي الأشجار الوارفة الظلال، كم كانت لذيذة وأنا اقتسمها مع الأصدقاء والصديقات ، نسبحت في ما يشبه البركة قرب الصخرة أنا وعادل والوردي ، جربنا حياة السلمون للحظة كم هي صعبة وشاقة حياة السلمون، لم نستطع القفز ولا السباحة ضد التيار ، على الجدار الصخري يتسلق الإنسان الجدي بكل رشاقة حافي القدمين ، صعودا ونزولا وكان حياته كانت بين هده الصخور مند سنوات بعيدة . على صخرة كبيرة تقف وسط تيار الماء الجارف ،صرخت بكل قواي أخرجت كل آهات الحواس، احتفيت بصمت المكان ،أطلقت صرخاتي المزعجة وكانت فرحتي طفولية وأنا اسمع صداها يتردد بين الصخور في حلق الوادي، ضحك حكيم وهو يمسك بيد زوجته فوق أحجار الوادي الملساء الزلقة ،وهو يهمس لي هاهي الجبال أيها السلطان ، اعرف انه يتذكر الآن صرختي عند وصولي في دلك الفجر وأنا أهم بعناقه " أين الجبال التي وعدتمونا بها " طبعا يتعلق الأمر بالجبال المحيطة بممر تيزين تيشكا بين مراكش و ورزازات كانت بضع قصائد وقنينة فودكا وصحبة جميلة من الهادي الجزيري وزكية الجريدي ومحمد دلول كافية لان تكون الطريق منبسة من مراكش إلى دوز أو ..... في دلك المطعم الأنيق بين صخور الجبال ببومالن دادس ، وأنا أقف مباشرة في وجه الجبل شعرت برغبة كبيرة في الردة ،وقلت للحاضرة في القلب دوما : لو أني كنت الجبل ،لأهديتك كل الصخور لتبني قصبة – عين واحدة تكفي هده الجبال كي تحرس كل العابرين في هدا الممر الصغير حيث تنتصب الألف قصبة .
سفر يعيد إليك طفولتك التي تاهت منك،وأنت توغل في أدغال الحياة، تتوه عنك في غابات العمر المقهور، وتعود وتركب سيارة النقل المدرسي ، تشكل بشغب وشغف عصابتك الصغيرة وتتخلى قليلا عن وقارك المزعوم ،تحدق بفضول في أعين اليسار تلامس الخال الذي على خده ، وتتمنى لو كان مكثفا قليلا، لو كان بلا حشو، لو لم يتأخر إلى آخر الحفلة، لكنت فتحت أشرعة القلب له من جديد كي تهب كل الرياح التي في الجنوب، وتحملك نارا حارقة في أغنية أمازيغية إلى كوكب من تراب وماء ، في بهو جوهرة الجنوب كان اليسار في الانتظار لم أشرب ساعتها كأس الفودكا المحترمة لأودع أياما من" جنة الذئب " الجديدة ، واستقبل رمضان الأبرك بما يليق به من ارتواء جميل، تعانقنا ،قال سأبقى هنا حتى مجيء الصباح ، أتمنى لك "سفر إيفولكي" ، ركبت المكوك الشعري مع المجاهد الأكبر على حد وصف الهادي الجزري لمحمد زرهوني ، وبعد بضعة كيلومترات نمت ،هده المرة أيضا لم أر الجبال التي وعدوني بها ، ولم يأت الصباح الذي انتظرناه طويلا ، كان هناك متسكعا في الناظور ينتظر فرصته للتسلل خلسة من حراس الحدود إلى مليلية المحتلة .
ياه كم سقط زهوا من كلامي أناس قريبون من نبع الحياة طيبون كما طين الوادي حميميون كماء الظهيرة لطفاء كما نسائم ليل الجنوب أقوياء في حبهم لا يريدون شكرا أو جزاء ،طبعا هو هكذا الجنوب وهده فاكهته روح لا حد لطيبتها ، عدت وأزيز المحرك يهدهدني بينما أسماؤهم وملامحهم الضاحكة تملأ القلب : رشيد فاضل قلب بحجم الوطن، صالح مستشاري الخاص ، عز الدين وهو يعمل في هدوء كالنمل ، محمد املال يحتفي بألوان الحياة ، مصطفى الوردي بألحانه الشجية ، حسن وبخات الورد التي يخبئ فيها حكيم خيباته، عادل وهو يشتهي شرب القهوة السوداء ، حرز الله الذي في قلق وفي الق ، محمد عابد وأسئلته الصادمة ونحن نبحث عن البيصارة للفطور، زكية الجريدي وغنائها التونسي الشجي ،المنجي بن خليفة وهو يتفحص المدينة بعدسة كاميرته كطفل صغير، سمير السحيمي الهادئ دوما بعد أن خذله اليسار ذات ليل وعاد إلينا بلا مكسرات ، بنعيسى بوحمالة ونوادره الشيقة وحكاياه المليئة بالحكمة والمتعة ،محمد دلول بلونه الترابي وهو يعزف أنينه على البانجو ،احمد المسيح وهو يلتقي بطفولته الرائعة ، ثريا قاضي وهي تخرج من حلم حروفها بلا مناشف ، صفية الأمازيغية وأنا افهم من شعرها فقط مكامن الماء ، عبد العزيز المكي الناصري وهو ينتقي كلماته لتطريز قصيدة زجلية ، سعيدة تثريت مواويل تبعث الروح من سباتها الطويل ،عبد السلام الفزازي ضاحك يحاول أن يقبض على لحظة الحياة ، ليلى زيتوني بقهوتها السوداء في فنجان ازرق ،القديس إبراهيم قهوايجي وهو يقود السرب كنسر ملكي ، محمد زرهوني المجاهد الأكبر وهو يمرر سبحة الجمال بين أصابعه إكراما لروحه المرحة واحتفاء بالمدينة، لا عجب ادن إن طالت هده الهدهدة وكم كان جميلا مرورهم في مرايا الروح لا يهم إن تجاوزت جرسيف إلى الناظور فدلك قفر لا يليق بي كما قال حكيم ذات انس وأعيننا معا على حوض السباحة من المؤكد أن سفري هدا كان "سفر إيفولكي ".
ملحوظة : ولأنني لم أر الجبال التي وعدتموني بها في تيزين تيشكا ، سأعود إلى ورزازات كي أتحقق من هده الإشاعة المغرضة ، فانتظروا سلطان الماء في زيارة مفاجئة ، مع محبتي الزرقاء لكم أيها الأصدقاء
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق